رئيس التحرير
عصام كامل

محمود حافظ يكتب: «ما بين السطور»

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

أحيانًا نحتاج إلى البكاء لنغسل خطايانا وهموم مكتومة بين ثنايا الصدور ولا يشعر بها أحد سوانا، نحتاج بعضًا من اللطمات لكى نستفيق ونعود إلى رشدنا، فالصدمات ليست شرًا في كل الأحوال، ففي الوقت الذي نشعر أن الأرض كلها قد ضاقت علينا بما رحبت وأن القلوب كلها قد أغلقت أبوابها في وجوهنا وتخلى عنا الجميع وأن الحياة قد صارت أشبه بالسجن الكبير، نجد أن الدموع وحدها كفيلة بأن تزيح ما بداخلنا ذلك الحُزن المكبوت وتُفرج عن صدورنا تلك التنهيدات المتحشرجة المختنقة والتي تبدو وكأنها جمعت كل مرارة الدنيا ووضعتها في حلوقنا.


فالدموع تغسل عيوننا وتنقيها وتكشف لنا تلك الصورة الحقيقية للواقع والتي شوهتها وأخفتها بهرجة الحياة وألونها المبهرة، فنرى الأمور أكثر وضوحًا وشفافية وتتغير نظرتنا إلى الحياة بطريقة مختلفة، نظرة أخرى أكثر واقعية وتأمل وعمق، فتتجدد الأفكار والأهداف ونتعلم من كل تجارب الماضي، وفى الحقيقة إن أفضل فترة نرتب فيها أولوياتنا ونعرف وجهتنا بدقه هي فترة ما بعد الصدمات مباشرة، عندما نقوى على النهوض من جديد وتُصبح كل خيوط اللعبة في أيدينا، نمسك بلجام "جواد طموحنا الجامح" فلا ندع أي شىء للمفاجأة أو المخاطرة غير المحسوبة، فترة تكشف لنا أننا قد صرنا أكثر نُضجًا وتعقُل عن ما مضى.

أجمل ما في الشتاء ذلك السكون التام وكأن العالم يعيش في سبات، غالبًا الخلوة أو الوحدة ترمز إلى الكآبة وتُعبر عن حالة ملل يُصاحبها شعور برفض الاختلاط بالمجتمع المحيط بنا، لكنها أيضًا جيده جدًا كفترة نقاهة نحتاجها لنسترجع فيها كل الأحداث التي مرت بنا ونقيمها تقيمًا آخر بلا شوائب أو مؤثرات خارجية، نرى فيها كل التفاصيل التي لم ننتبه إليها في حينها، لحظات نتأمل فيها كل ما مر بنا تعاد فيها كل المشاهد السابقة كشريط الذكريات فنميز فيها بين الصواب والخطأ والغث والسمين والنفيس والرخيص.       

تمُر حياتنا بفصول متعددة تمامًا مثل فصول السنة تتعاقب ما بين ربيع وصيف وخريف وشتاء، لو كانت الحياة دائمًا “مُزهزها”.. شمس مشرقة وسماء صافية ونسمات هادئة وليل لطيف لأصبحت جنة، ولكان اختفى جنود الحُزن “الألم والفراق والندم والإنكسار” من حياتنا تمامًا، لكن في حقيقة الأمر التنوع مطلوب ومتفق ومتناغم مع حقيقة النفس البشرية التي تحتاج أيضًا إلى الغيوم و“كآبة الشتاء”، تحتاج إلى تلك السماء المُلبدة كثيفة السُحب والعواصف التي يتبعها أمطار عاتية فتغسل كل الرواسب التي خلفتها الفصول السابقة فتزدهر الحياة وتنتعش وتتزين لتعود من جديد شابة يافعة حسنة المظهر رائعة الجمال.

نعم فما زالت الحياة مستمرة وما زال الأمل موجود، ما زالت تلك القطرات تنهمر وتطرق نافذتنا بلطف نتأملها عن كثب، نراقب جمال المطر فترتسم على وجوهنا الابتسامة وننسى الهموم ونشعر بالحنين إلى كل شيء، إلى طفولتنا وإلى سنوات قد مضت من عمرنا، سوف نحن إلى قلوب افتقدناها وأحاسيس نسيناها، سننسى كل ما بقلوبنا مِن نقاط سوداء عندما نرى نقاء المطر يتساقط كحبات اللؤلؤ المتناثرة نتذكّر كل صفاتنا الجميلة التي كنا قد نسيناها بالفعل.
الجريدة الرسمية