رئيس التحرير
عصام كامل

الله يرضى عليك


تدور قصة أحد أفلام جاكي شان حول "بدلة سهرة" من يرتديها يمتلك قدرات خارقة، وهي القدرات التي نحتاجها لإقناع الموظف الحكومي بأهمية التعامل الآدمي مع متلقي الخدمة، وقد نشر الكاتب الكبير "لويس جريس" عبر حسابه على فيس بوك تدوينة تحدث خلالها عن شيخ طاعن في السن توقف معاشه الحكومي بعد أن تجاوز التسعين من عمره، وذلك حتى يقوم بإثبات أنه على قيد الحياة عبر تقديم بطاقته الشخصية بنفسه إلى موظف المعاشات، فيما يبدو كأنه عقابًا لمن يتجاوز هذا العمر على طريقة مخالفات السرعة المرورية!


هذا الشيخ الفاضل هو "وديع فلسطين" الذي يستحق الوقوف كثيرًا احترامًا لسيرة حياته ومؤلفاته وترجماته وليس إجباره على الوقوف بالطابق الأرضي من إدارة المعاشات المختصة انتظارًا لمحاولة مرافقيه إقناع الموظف المسئول بأن يُنهي الإجراءات المطلوبة دون إجبار الشيخ على الصعود لمكتبه في الطابق الثالث من بناية مصعدها معطل!

وبعد فشل المفاوضات الهادفة لإعطاء الحق الإنساني لوديع فلسطين مثلما فشلت جميع المفاوضات الشبيهة في أهدافها والخاصة بفلسطين نفسها، فقد عاد الشيخ إلى صباه متحليًا بتصميم "سانتياجو" في رواية (العجوز والبحر) ليصعد درجات ثلاثة أدوار في معاناة تتجاوز رحلة شاب قرر صعود "درجات التوبة" المؤدية إلى قمة الجبل حيث تحدث الله إلى النبي موسى وأوصاه قائلًا: "أكرم أباك وأمك حتى تطول أيامك على الأرض".

ونقلًا عن الأستاذ "لويس جريس" اقتبس ما بين القوسين نصًا (بجهد جهيد ارتقى درجات السلم لموظف المعاشات الذي لم يقدم له كرسيًا ليستريح ونظر إليه من تحت لفوق وقال له بجفاء "اتفضل يا سيدي سوف نرسل لك شيك المعاش".. وحتى كتابة هذه السطور لم يصل الشيك.. هكذا نعامل شيوخنا الذين ربونا وعلمونا الكثير).

هناك نماذج محترمة بين الموظفين بكل تأكيد ولكنها تختفي وسط ركام منظومة في حاجة إلى الإصلاح، أما في هذه الحالة فالمؤكد أن "وديع فلسطين" لا يمت بصلة قرابة إلى "وديع صافي" صاحب أغنيات (عظيمة يا مصر) و(الله يرضى عليك) والأخيرة أغنية تحولت إلى جملة تتردد أصداؤها كثيرًا في الأروقة الحكومية عندما يقرر الموظف أن يتعنت في تقديم الخدمة.

قبل سنوات قليلة لم أكن أستطيع استخراج بطاقة شخصية بسبب خطأ كتابي أحدثه موظف في شهادة ميلادي، وعندما ذهبت لمحاولة تصحيحها نظر الموظف المختص إلى الأوراق مليًا قبل أن يرفع عينيه لينظر ليَّ بطريقة الصياد لفريسته أو الطبيب الواثق بعد أن توصل إلى حقيقة المرض، ثم أخبرني بهدوء الخبير بأنني لست "راجي" كما اعتقدت ومعي الكثيرين لسنوات طويلة ولكنني "راضي" تبعًا لسجلات الحكومة، وضحك ضحكة المنتصر ليبدأ في إقناعي بأن لي نصيبًا في اسمي الجديد وهو الرضاء بالمكتوب.. ثم ترك مكتبه ليربت على كتفي ويُخبرني بألا أحزن لأنني أكثر حظًا من آخرين ولدتهم أمهاتهم ووقفوا أمامه ليتبجحوا بأنهم على قيد الحياة رغم عدم وجود إثبات حكومي يؤكد ادعاءاتهم!

صدرت بطاقتي الشخصية بالفعل بعد سنوات من هذا الحادث، ولكن احتاج الأمر وقتها إلى قدرات فائقة لم تمتلكها بدلة "جاكي شان"، وخيال لم يتوفر في "هوليوود" بأكملها.

ورغم أن التأكيد على الأمور البديهية أمرًا مملًا ولكنه يثير الضحك أحيانًا مثل العمارة التي رأيت في مدخلها ورقة مكتوب عليها (ممنوع التبول داخل الأسانسير) أو الكافيه الذي علق صاحبه لافتة (ممنوع تدخين المخدرات منعًا للإحراج) ولكن أيضًا يبقى التأكيد على الأمور البديهية مؤلمًا في أحيان أخرى بقدر وجعي لعدم احترام بعض الموظفين لسنوات عمر أجيال تعلمنا منها ولولاهم لما أصبحنا.
الجريدة الرسمية