رئيس التحرير
عصام كامل

من أنوار المعارف


لا يفارق مرارة الغربة وألم اليتم أهل محبة الله تعالى حتى يأذن محبوبهم عز وجل باللقاء، فالدار ليست بدارهم ولا المقام مقامهم فأرواحهم في شوق وحنين إلى المحبوب الذي تذوقت قلوبهم حلاوة محبته وعاشت أرواحهم جمال أنسه، فشوقهم إليه سبحانه كوى أكبادهم وحنينهم إليهم سبحانه أنساهم دنياهم، ولعل سائل يسأل، ما سر حنينهم وشوقهم إليه جل جلاله، هل عاشوا أنسه وذاقوا حلاوة قربه تعالى من قبل، أجيبه قائلا: نعم عاشوا أنسه وتذوقت قلوبهم وأرواحهم حلاوة قربه، والدليل على ذلك أنه ليس من المنطق أن يحن الإنسان ويشتاق إلى شيء يجهله ولم يكن له به سابقة دراية، فلا شوق ولا حنين لمجهول..


من هنا ندرك سر شوق وحنين أهل ولاية الله تعالى ومحبته إلى الأنس بمحبوبهم ومولاهم سبحانه وتعالى، ولنعود إلى المشهد الأول المتعلق بوجودنا في عالم الأرواح عالم الذر والعهد والميثاق والإقرار بحضرة الربوبية، وقصة هذا العالم بدأت بعد خلق أبينا آدم عليه السلام فبعدما خلقه الله مسح سبحانه على ظهره بيد القدرة الإلهية فاستخرج جميع ذريته من ظهره في هيئات نورانية خالية من الأنفس والكثافات المادية بلا أغيار وحجب، أي أرواح نورانية مؤهلة لشهود تجليه تعالى عليها بأنوار صفات ربوبيته عز وجل، ثم أقامها بين يديه وتجلى جل جلاله عليها بصفات العزة والقيومية والجمال والرحمة والجبروت، فشاهدت الأرواح هذا التجلي وأدركته ثم جاء الخطاب الرباني لها، ألست بربكم، فأقرت الأرواح كلها وأجابت، بلى شهدنا، وكانت هذه الشهادة على أثر الشهود أي شهود التجلي، ومن هنا كان إيمان الشهود وليس إيمان الاعتقاد، فكما نعلم أن إيمان الشهود يأتي على أثر المشاهدة والعيان، وإيمان الاعتقاد متعلق بالإيمان بالغيبيات..

إذًا نستطع أن نقول إننا في عالم الأرواح أقامنا الله سبحانه في مقام الإيمان الشهودي وهو إيمان لا مراء فيه فقد شهدت أرواحنا النورانية تجليات الله تعالى بأنوار صفات ربوبيته، وقد أخبرنا الخالق سبحانه وتعالى عن هذه المعايشة، وهذا المشهد في قرآنه العظيم، وربما يسأل سائل فيقول لماذا لا نتذكر هذا المشهد وتلك الحالة التي كنا عليها، الإجابة ببساطة شديدة أنه عندما شاء الله بظهورنا في هذه الحياة ألبس أرواحنا أثواب بشرية خلقت من الطين وهي الأجساد وركب فيها أنفس جمع فيها سبحانه كل الأضداد والأغيار، السمو والتدني، من هنا جاء الحجاب على أثر وجود الأغيار، نعود إلى حديثنا، ونشير إلى ما كان بعد مشهد التجلي في عالم الأرواح..

ذكرت أن التجلي كان بصفات حضرة الربوبية وكان لهذا التجلى أثر فى الأرواح المتجلى عليها وهو عبارة عن أنوار سطعت في ذواتها، ثم اختلفت أحوال الأرواح بعد التجلي فأرواح الأنبياء والأولياء وهم صفوة العباد وخلاصة أهل المحبة أثناء التجلي لم تلتفت إلى أثر التجلي من الأنوار في ذواتها وإنما انجذبت بكليتها إلى مصدر وصاحب التجلي وتعلقت بحضرة الربوبية فحظت بقربه عز وجل وذاقت حلاوة وجمال أنسه سبحانه، وباقي الأرواح شغلت بالنظر إلى الأنوار التي سطعت في ذواتها وحجبت بأنوار التجلي التي ظهرت فيها، عن صاحب التجلي سبحانه وكان نتاج ذلك أنها حجبت عن المتجلي وشغلت بأنوار تجليه..

في هذا المشهد تعلقت أرواح الأنبياء والأولياء بصاحب النور والتجلي ولم تلتفت إلى أثر التجلي عكس أرواح سائر البشر فإنها التفتت وشغلت بأثر التجلي ولم يأخذوا ويتيهوا في جمال وعظمة المتجلي سبحانه والذي هو مصدر التجلي فحجبوا عنه وشغلوا بمشاهدة أثر التجلي، هذا وبعدما شاء الله تعالى أن يظهرنا في هذا العالم الدنيوي ألبسنا أثواب البشرية وأودع فينا الأنفس بما فيها من علائق وأغيار وأوجدنا في هذه الدنيا وجعلها دار فتنة ولهو وزينة فركن إليها أصحاب الأرواح التي لم تنجذب إلى حضرة الربوبية في عالم الذر، وأما أصحاب الأرواح التي أخذت وتاهت وغرقت في ذات حضرة الربوبية في عالم الذر لم يفارقها الأنس الذي عاشته عندما أخذت وتاهت في حضرة الربوبية ذاتها وليس في أثر تجليها، من هنا يأتي سر حنينهم وأنينهم واشتياقهم لربهم عز وجل، هذا ولا شك أنهم الغرباء الذين أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله، فطوبى للغرباء، فرضي الله عنهم ورزقنا محبتهم وجمعنا به سبحانه.
الجريدة الرسمية