رئيس التحرير
عصام كامل

تجارب اقتصادية ناجحة.. التجربة الألمانية


عقب تناولنا لتجربتين ناجحتين إحداهما في أمريكا اللاتينية، والأخرى في آسيا، فإننا نستعرض تجربة إحدى المعجزات في أوروبا، وهي تجربة التنمية الألمانية، والتي تُعد رمزًا للإصرار والإرادة على تخطي العقبات والأزمات، فقد مرت تلك الدولة بحروب دولية كبرى (الحربين العالميتين الأولى والثانية) أدت إلى تغيير هيكل التركيبة السكانية وانخفاض عدد السكان، ما أدى إلى انخفاض القوة الشرائية وانكماش السوق، واختلال التركيب السكاني والقوى العاملة وكانت النسبة (75% نساء و25% رجال) نتيجة قتل الرجال في الحرب أو معاقبتهم بالسجن عقب الحروب العالمية، وكذلك عمليات التقسيم التي تعرضت لها الدولة، وإعادة توحيد الألمانيتين في تسعينيات القرن العشرين.


ومن ثم يتناول هذا المقال تجربة التنمية الألمانية في إطار ثلاثة محاور، وهي: نشأة وتطور نظرية السوق الاجتماعي، آليات نجاح نظرية السوق الاجتماعي في ألمانيا، وأخيرًا خاتمة.

أولًا: نشأة وتطور نظرية السوق الاجتماعي
تُعد ألمانيا نموذجًا جيدًا للتطبيق النظري من أجل تحقيق النمو. حيث اعتمدت ألمانيا على الاتجاه الليبرالي المنظم ordoliberalism والذي يعني عدم انسحاب الدولة من إدارة السوق، بمعني أدق.. الإيمان بالسوق الحرة الرأسمالية مع استمرار دور الدولة كمنظم لإدارة هذا السوق، من خلال سن القوانين المنظمة للسوق، وضامنًا للتوزيع العادل للثروة، ومنع الاحتكار وتحقيق الرعاية الاجتماعية لتصحيح الاختلالات الناتجة من سياسات السوق الحرة، والحفاظ على التماسك المجتمعي، وهو ما تبلور فيما أطلق عليه فيما بعد باقتصاد السوق الاجتماعي الذي تتبناه ألمانيا، واستطاعت من خلاله تحقيق معدلات نمو وتنمية أذهلت العالم على الرغم من الدمار الذي كان لحق بها على جميع المستويات عقب الحروب العالمية.

وجدير بالذكر أن اقتصاد السوق الاجتماعي قد تبلور على يد "لودفيجاير هارت" الذي كان قد كتب مقالًا عن مصير الاقتصاد الألماني، وتم تعيينه وزيرًا للمالية عقب انتهاء الحرب وقام بإرساء قواعد السوق الاجتماعي خاصة مع صدور كتاب "إدارة الاقتصاد واقتصاد السوق" عام 1946 للبروفيسور "ألفريد موللر –أرماك".

تتمثل مبادئ نظام السوق الاجتماعي في إطلاق العنان لحرية التملك والاستثمار بل وملكية وسائل وعوائد الإنتاج، إلا أن للدولة دورا اجتماعيا وتنظيميا هاما يتمثل في إصدار القوانين اللازمة لتنظيم حركة السوق، والتحكم في السياسات النقدية من خلال بنك مركزي مستقل عن الحكومة وضمان حقوق غير القادرين من خلال شبكة للخدمات الاجتماعية، والأكثر أهمية هو القدرة على تحقيق الشراكة بين العاملين وأرباب العمل في منظومة نقابية تضمن السلام الاجتماعي داخل المجتمع، حيث الاتفاق بين الطرفين على تحديد الرواتب والأجور، وإشراك العاملين في مجالس الإدارة وفي آلية اتخاذ القرار داخل المنشآت الصناعية.

ثانيًا: آليات نجاح نظرية السوق الاجتماعي في ألمانيا
كما سبق وأشرنا في المحور السابق عن ماهية اقتصاد السوق الاجتماعي، والتي لم يؤد فكر اقتصاد السوق الحر إلى انسحاب الدولة من التنظيم والإدارة، ولكن ظل للدولة دور هام على جميع المستويات، وخاصة في سن القوانين والاهتمام ببرامج الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي لعلاج الاختلالات الناتجة من تطبيق السوق الحرة وكذلك التعليم.

1) فيما يتعلق بالنظام المصرفي؛ فقد تحكمت الدولة في السياسات النقدية للدولة من خلال البنك المركزي كما سبق وذكرنا، حيث إنه بجانب الوعي المصرفي لدى المواطنين فإنه توجد بنوك الادخار الخاصة بتعبئة المدخرات مهما كان حجمها من المواطنين، وهذه البنوك منتشرة في كل أنحاء ألمانيا.

هذا وتوفر الدولة نظاما معلوماتيا هاما يتضمن ثلاثة عناصر هي: معلومات"عن حجم المدخرات وآجالها"، ومعلومات عن "المشروعات" التي تحتاج لتمويل وتحديد مجالاتها( زراعي، صناعي، عقاري.. إلخ) وذلك في خطوة هامة من الدولة لتشجيع الاستثمار وتوجيهه. حيث عقب الحرب اجتمع العلماء وحددوا المشروعات المطلوب تمويلها، ووضع خرائط لجميع المدن والقرى بألمانيا لتطويرها، وهو ما يتعلق بالنقطة القادمة وكانت سببًا هامًا في التنمية الألمانية.

2) التخطيط الإقليمي؛ إذ إنه عقب الحرب وتوحيد الألمانيتين في تسعينيات القرن العشرين والاختلالات فيما بين الولايات المختلفة والقرى والمدن؛ مما أدى إلى تبني النظام الألماني نظام التخطيط الإقليمي والتنمية الإدارية لإزالة الفوارق فيما بين المدن والقرى والولايات (الأقاليم) المختلفة في ألمانيا، وكذلك لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية مع الحفاظ على البيئة. فقد انطلقت ألمانيا في التخطيط الإقليمي من أهداف بيئية تتمثل في: تطوير البنية التحتية، رفع مستوى المعيشة في الأقاليم المختلفة، تقليص الفروقات بين المدن والأطراف والأقاليم، استغلال الإمكانيات الطبيعية في الأقاليم الريفية، كما أعطت الولايات حق وضع خطط التنمية للمناطق التابعة لها، وتقوم سلطات الدولة بالإشراف على الخطط المحلية بحيث تتوافق مع الخطة العامة للدولة.

3) التعليم؛ يُعد التعليم أحد الركائز الأساسية التي تطور من خلالها الاقتصاد الالماني وأدى إلى نجاح التنمية الاقتصادية الالمانية، فهي لم تهتم فقط بالتعليم العام، ولكنها اهتمت بالتعليم المهني والتدريب المهني فقد ربطت الدولة بين الأساس العلمي والنظريات والتدريب من ناحية، وبين التعليم والخريجين وسوق العمل من ناحية أخرى. ويتكون النظام التعليمي من اربع مراحل (الأساسي، الإعدادي، التعليم الثانوي، وأخيرًا العالي)، وإتمام هذه المراحل لا تمنع المواطن من زيادة التعليم، وهو ما يطلق عليه "التعلم مدى الحياة"، وعلى الرغم من استقلال كل ولاية بتحديد نظامها التعليمي فإن هذا الاختلاف يكون في الجزيئات والمجالات الخارجة عن اختصاصات الحكومة المركزية.

ويعتبر التعليم إلزاميا حتى المرحلة الإعدادية وهناك اهتمام بالتعليم المهني الذي يتكون من سنتين دراسيتين. ومن مظاهر الاهتمام بالنظام التعليمي تحديد نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم بــ11% من الناتج المحلى الإجمالي، والاهتمام باللغة الألمانية، وتكوين الشخصية للطفل خلال مرحلة ما قبل المدرسة، والاهتمام بالعلوم والرياضيات والتربية البدنية والفنية، هذا وتوجد ثلاث جهات متدخلة ومؤثرة في العملية التعليمية وهي:
- الدولة والحكومات الفيدرالية ووزارة الثقافة.
- المنظمات والهيئات غير الحكومية.
- مؤسسات الدولة ذات الطابع السياسي مثل المجلس العلمي.
وجدير بالذكر أن هناك اهتماما بالبحث العلمي حيث تخصص الدولة 2.53% من الناتج المحلي الإجمالي على البحث العلمي، لتأتي ثالث دولة بعد اليابان والولايات المتحدة في هذا الشأن.

3) الرعاية الصحية؛ تعتبر ألمانيا من الدول الرائدة في مجال الرعاية الصحية ومثالا جيدا يحتذى به في هذا الشأن، فهي من الدول التي تطبق نظام التأمين الصحي الحكومي، والذي يمثل 87.5%، ونظام التأمين الصحي الخاص والذي يمثل 12.5%. وتهتم الدولة بوضع سياسات للتأمين الصحي تشترك فيه الولايات والحكومة الفيدرالية ومنظمات المجتمع المدني. وفيما يتعلق بالتأمين الحكومي يتم من خلال اشتراك الطبيب المتخصص وطبيب الأسرة، وتم إنشاء "هيئة الخدمات الطبية للتأمين الصحي" والتي تقوم بالمراجعة الفصلية لكل مرضى التأمين العام، الخدمات الطبية المقدمة، التقارير الطبية والفحوصات ومدى توافقها مع المريض.

وفي النهاية؛ فإنه على الرغم من الظروف التي مرَّت بها ألمانيا من حروب أدت إلى دمارها على كافة المستويات الاقتصادية أو المعنوية أو إحداث خلل في التكوين الديموجرافي، نتيجة فقدان العديد من رجال الدولة في الحروب والسجون؛ فإن الإرادة والعزيمة القوية لأبناء الوطن ومسئولي الدولة في التقدم والبناء كانت عاملا رئيسيًا لتحقيق ذلك التقدم، والذي لم يكن يتحقق بفضل مشروعات ومساعدات أجنبية ودولية، ولكنها إرادة الدولة ممثلة في حكومتها ونظامها السياسي والاقتصادي الذي تبنته بما يتلاءم وظروفها. حيث أدرك قادة الدولة ومسئولوها أهمية دور الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومراعاة خصوصية الدولة وابتكار نظام اقتصادي خاص يُطلق عليه مصطلح "اقتصاد السوق الاجتماعي" مما ساهم في احتلال ألمانيا المركز الرابع بعد الولايات المتحدة واليابان والصين من حيث أكبر اقتصاديات عالميًا.

هذا ويحتل القطاع الصناعي في ألمانيا 26% من إجمالي الإنتاج الاقتصادي، "فالعائلة تمتلك الشركة، وهو ما يعني أن الشركات تلعب الدور الأساسي في حياة أصحابها، وهو ما يضمن بقاءها، ويضمن نجاحها في السوق. حيث يبلغ عدد الشركات في ألمانيا قرابة 3 ملايين شركة، أي ما نسبته 99% من مجموع الشركات في البلاد، وغالبيته تديرها عائلات منذ أجيال. كما أنه نتيجة إدراك المسئولين الألمان لما تفتقره الدولة من موارد طبيعية فقد تم تخصيص 70 مليار يورو لمجال التطوير والأبحاث، كما أعلن مكتب الإحصاء الاتحادي في ألمانيا في بداية عام 2017 أن الاقتصاد الألماني زاد من سرعة نموه خلال عام 2016، وارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.9%، كما استطاعت الحكومة تحقيق فائض في ميزانيتها عما كان متوقعا، فقد بلغت نسبة 0.6 % من الناتج المحلي الإجمالي على مستوى الحكومة الاتحادية والولايات والبلديات خلال عام 2016، وقد كان متوقعا تحقيق فائض بنسبة 0.5% فقط.
الجريدة الرسمية