رئيس التحرير
عصام كامل

السادة والعبيد


غير مجدِِ في ملتي واعتقادي أن كل بناء أو رَصف أو حفر يحدث في هذا البلد من غير رفع للظلم الذي يقع على غالبية أهلها، نعم، فإن الدولة المصرية أصبحت تقوم على أسس من الفساد والتمييز والظلم نتجت عن مئات من القوانين كتبت لمحاباة بعض المواطنين على حساب البعض الآخر، أعني على حساب غالبية الشعب، لن أتكلم هنا عن المؤسسات التي تسمي نفسها سيادية التي أخرجت نفسها من تحت عباءة الدستور والقانون، وأصبحت كل منها دولة بذاتها داخل الدولة المصرية، لا تخضع لرقابة ولا محاسبة، وتدعي زورًا سيادتها على باقي أبناء الشعب ومؤسسات دولته.. ذلك الشعب الذي نص الدستور أنه دون غيره صاحب السيادة ومصدر السلطات.


لكني أتكلم عن مؤسسات أخرى لا تنتمي إلى تلك المؤسسات المسماة سيادية، لكن أغلب العاملين بها ينتمون بصلة ما إلى العاملين بالمؤسسات السيادية، فعبر عشرات السنين كانت التعيينات في هذه الجهات بالواسطة والمحسوبية فهي أعمال تتميز بأنها لا تتطلب الكثير من الجهد والمشقة لكنها على عكس ذلك تدر الكثير من الدخل، وتنعم أصحاب الحظوة ممن يعملون بها بمزايا اجتماعية من تأمين صحي ونوادي ومواصلات وغيرها على نفقة جهة العمل، وربما بما يزيد على الأجر!

أصبحت مصر الآن تنقسم إلى فئتين: فئة قليلة العدد متميزة بثرائها ومستوى معيشتها المرتفع ليس نتيجة أعمال فائقة الجهد أو شديدة الخطورة أو تمتد لساعات طوال، لكن لا لشيء إلا المحاباة والتمييز، وفئة أخرى كثيفة العدد تئن من شظف العيش وسوء مستوى ونوعية المعيشة، حيث تصل الليل بالنهار في أعمال شاقة بل وشديدة الخطورة في أحيان كثيرة دونما الحصول على أجور أو أية مزايا اجتماعية.

هل يمكن أن تستمر الحياة هكذا؟ هل يمكن أن يتحقق السلام الاجتماعي في مجتمع بهذا الشكل يعاني معظم أعضائه من الكراهية والحقد على أصحاب الحظوة؟ وتزداد الكراهية يوما بعد يوم مع فشل كل محاولة تعلن للإصلاح.. هل تذكرون قانون الحد الأقصى للأجور وكيف بدأ وما انتهى إليه؟

تضع الدول حدا أقصى لأجور العاملين بالدولة ليس الهدف منه تقليل رواتب كبار الموظفين بقدر ما يهدف إلى وضع علاقة ثابتة بين الحد الأقصى والحد الأدنى، بحيث يعمل الجميع سويا لزيادة الجميع، ولا ينأى كبار القوم بأنفسهم وحياتهم بعيدا عن باقي العاملين وضمانًا لواقعية وآدمية الحد الأدنى، وعادة ما تجعل الدول الحد الأقصى في حدود خمسة عشر ضعف الحد الأدنى، لكننا فوجئنا بأن القانون الجديد يجعل الحد الأقصى خمسة وثلاثين ضعف الحد الأدنى للأجر!

وليت هذا أعجب أصحاب الحظوة ففي خلال عامين كان هؤلاء قد استطاعوا بكل طريقة الخروج من هذا القانون محتفظين بكل مزاياهم ودخولهم ومنهين عمليا لفكرة وجود حد أقصى لأجر العاملين بوظائف ممولة من المال العام. ثم كان قانون الخدمة المدنية الذي جاء يحمل بشارة الإصلاح الإداري، لا محاباة بعد اليوم فلن يكون هناك تعيين بغير مسابقة شفافة وإعلان على موقع موحد للحكومة، ولا تعيين لعمالة زائدة فسيتم فورا تحديد الهيكل المطلوب لكل وحدة من وحدات الدولة الإدارية وإعلانه لمعرفة مواطن الزيادة ومواطن الاحتياج والعمل على علاجها، ولا للتفرقة في الأجور بين العاملين بالدولة إلا بنوعية العمل وخطورته وساعات العمل، وذلك بوضع قواعد ثابتة وإصلاح التشوهات التي خلقتها البدلات والحوافز وغيرها فماذا كانت النتيجة؟

تم إجهاض مشروع الإصلاح بالطريقة نفسها، فقد سارعت المؤسسات صاحبة الأجر الأعلى إلى الخروج من القانون بدعوى أنهم "غير مخاطبين"، ولينتهي الوضع بعد مرور عامين على بدء العمل بالقانون إلى مزيد من التدمير، فلا تحديد لهيكل، ولا إعلان موحد، ولا توحيد لأجر نفس الوظيفة في كل مؤسسات الدولة، ولم يبق من القانون إلا منع زيادة الأجور القليلة على الرغم من تزايد معدلات التضخم مع تسهيل فصل العاملين بالدولة!

وتظل الاختلافات الرهيبة بين الأجور والمزايا لمن يعملون بنفس الوظيفة ونفس ساعات العمل أكبر حاجز لعودة السلام الاجتماعي ومنع الانتشار المتزايد للكراهية بين أبناء الوطن الواحد، تلك الكراهية التي نراها تترجم يوميا في شكل شطط في الخصومة بين المصريين في كل شيء، بداية من الإرهاب المبني على اختلاف الرؤية السياسية، ومرورا بالطائفية التي تستغل طاقة الكراهية داخل النفوس لتخرج بحجة الاختلاف في المعتقد، ووصولا إلى ما يحدث بين مشجعي الأندية الرياضية من تشاحن وتلاسن حول أتفه الأشياء تنفيثا عما حوته صدورهم من كراهية متراكمة.

لا أعتقد أنه يمكن بناء دولة قوية متماسكة على أسس من التمييز والكراهية والسؤال من يستطيع أن يسمي الأمور بمسمياتها ويستعين بالأغلبية الساحقة من أبناء الشعب من العمال والفلاحين والأطباء والمهندسين والعلماء والمعلمين ليقف أمام لوبي أصحاب المصالح والنفوذ، بدلا من مهادنتهم والتقرب إليهم بل والتحالف معهم سعيا لكسب دعمهم مقابل الحفاظ على مكاسبهم الظالمة بل وزيادتها، لم يعد هناك مكان في هذا العالم لدول تقام على تقسيم شعوبها إلى سادة وعبيد!
الجريدة الرسمية