رئيس التحرير
عصام كامل

«بينوكيو» حلوان.. فن مدمر


كتبت قبل أكثر من شهر مقالا بعنوان "مصر مستهدفة بالفن والإعلام"، عرضت فيه نماذج محدودة وآنية من أخطاء فادحة يرتكبها أهل "الميديا" بعضها عن جهل والآخر عن عمد، ودعوت إلى مواجهة حاسمة لتلك الفوضى، لأن مصر تدفع الثمن الفادح من سمعتها فضلا عن التأثير الكارثي على الأجيال الواعدة.


ها هو القضاء ينتصر لشيخ الأزهر د.أحمد الطيب ويحظر عرض وتداول برنامج إسلام بحيري، الذي اعتاد التطاول والهجوم على التراث والشريعة وعلماء الدين وتوجيه النقد دون أدلة صحيحة، مستخدما لغة متدنية تفتقد الاحترام من شأنها تشكيك المشاهد في الدين.. لكن مع وقف البرنامج، رفضت المحكمة منع البحيري من الإطلالة بالفضائيات انتصارا لحرية الفكر والتعبير، أي بمقدوره نشر سموم أفكاره متى وكيفما أراد!

نأتي إلى عمل فني كاد أن يسبب أزمة لو أدرك حضور مهرجان "الكويت لمسرح الشباب العربي" مغزاه الحقيقي ودلالاته، لكن مر الأمر بحيلة ذكية من المخرج، رغم أنها لم تنطل على الكثيرين ممن التزموا الصمت أمام "كارثية" مضمون المسرحية المصرية، حتى لا يفسدوا مهرجانا يقام بالكويت.. وأقصد هنا مسرحية "بينوكيو" لجامعة حلوان التي مثلت مصر رسميا في مهرجان مسرح الشباب العربي بالكويت الأسبوع الماضي.

"بينوكيو" يوحي من عنوانه أنه مسرحية للأطفال، وهي الخدعة التي وقع فيها بعض من استنكروا الاستعانة بعرض أطفال في مهرجان للشباب، ليؤكد مخرج العرض وأحد فناني الكويت أن المسرحية ليست للأطفال! 

استغل العرض قصة "بينوكيو" الشهيرة وصانع الدمى، ليبث من خلالها "أفكار تهدم ثوابت الدين"، وتناول "قصة الخلق" بطرح جريء ومثير اعتمادا على الإسقاطات، لكن كانت هناك دلالات لا تخطئها عين ناقدة ورموز وإشارات لا تخفيها الألوان المبهجة والدمى والأزياء ولا الحيل المسرحية الذكية.

المسرحية عن صانع دمى عجوز "ليس له ولد" يخبر دُماه بأنه صنعها بيديه ويشعر بها كما لو لديها إحساس، لكنه يظل حزينا لإحساسه بالوحدة، حتى تتغير حياته عندما يرشده ضيفه، الذي يبدو من اسمه أنه جنّي "ولعة"، على طريقة لتحقيق حلمه، فينظر العجوز إلى النجوم ويتمنى أن "يصبح له ولد"، لتظهر جنّية أو ملاك "شعلة" تحقق للعجوز أمنيته بتحويل الدمى إلى بشر، فيفرح "صانع الدمى" لأنها ستحول "بينوكيو" إلى إنسان، ولكن "شعلة" تحول الدمى لبشر، دون "بينوكيو" الذي لم يتحرك إلا عندما فك العجوز قيوده أو كما قالت "شُعلة": "منحه ترياق الحياة"!.

"بينوكيو" المفضل لدى العجوز والذي صنعه وحده من الخشب وصنع البقية من القطن والقماش، أحب الدمية "سيسيليا"، وخرج عن طاعة والده "عصاه" من أجل الحب، وحين وقع في المحظور، غضب الأب لتظهر له دمية سوداء كأنها "الشيطان" يبدو عليها علامات الشر والبغض تدعى "رُكنة"، تقول لصانعها انها من أوقعت بينه وبين "بينوكيو" وجعلته يهرب إلى "المدينة الزجاجية" بعدما أقنعته بأن والده باع "سيسيليا" ليحرمه منها، وبررت فعلتها بأن العجوز "يفضل بينوكيو عليها"، مع أنها مصنوعة من "خليط الخشب والقطن"، وهي الأقرب إلى "بينوكيو" المنحوت من "الخشب ثم غطاه بالتراب"!.

الخطير في عرض "بينوكيو" غير محاكاته "قصة الخلق" أنه جعل "صانع الدمى وخالقها يموت" حزنا!! بعد أن تحولت دماه إلى بشر وباعها إلى "شعلان" بما فيها "سيسيليا" ورفض بيع "بينوكيو" و"رُكنة"، وعندما خرج صانع الدمى بحثا عن ابنه "بينوكيو" ووجده سعيدا مع حبيبته يقدمان معا عرض "الدمى الساحرة" على مسرح شعلان، يموت من الصدمة، وهو الذي صنعه بيديه ومنحه ترياق الحياة لكنه عصاه وتركه من أجل الحب.

رسائل العرض الخطيرة ومحاكاته قصة الخلق بهذا الشكل وجعله "صانع الدمى الذي ليس له ولد" يموت كمدا وحزنا، لم ينتبه إليها الكثيرين وسط الإضاءة والأزياء المبهرة والسينوغرافيا المدهشة والموسيقى وغيرها، فاعتقدوا أن المسرحية استلهمت قصة "بينوكيو" الشهيرة بمعالجة مختلفة للطفل العربي، لكن مخرج العرض أكد أنه ليس للطفل وأسماء الدمى لها دلالة على الحواس ومنها "دمعة"، "ضحكة"، "خوف"، كما اختار للجنيات "ولعة" و"شعلة". لكنه لم يفسر باقي دلالات العرض حتى لا يقع في المحظور ومنها ظهور السماء عندما دبت الروح في "بينوكيو"، وكذلك الأرض عند هروبه إلى "المدينة الزجاجية" بعد أن "عصا والده" وغيرها. 

هذه الرسائل الفنية المدمرة للثوابت كيف مرت من الرقابة ومن سمح بإجازتها للعرض في مصر وتمثيل البلد في الخارج؟!
الجريدة الرسمية