رئيس التحرير
عصام كامل

عشقتك يا وطني


من الملاحظ أن كثيرا من المصريين ليس لديهم اهتمام بزيارة آثارهم الفرعونية أو القبطية أو الإسلامية التي يأتي إليها البشر من كل أنحاء العالم.. حتى سكان القاهرة، قليل منهم من زار الأهرامات، أو الكنيسة المعلقة، أو مسجد عمرو، أو القلعة، أو المتاحف، أو سافر إلى الوادي المقدس الذي كلم الله فيه موسى.. سوف يدرك المصريون أن وطنهم العزيز مصر رائع وعظيم حقًا، إذا أتيحت لهم فرصة التجوال في كل أنحائه، شمالا، وشرقا، وغربا، وجنوبا.. ففي كل ناحية من هذه الأنحاء، سوف يرى ما يأخذ بلبه وعواطفه لما فيه من سحر وجمال. 


صحراء مصر الشرقية بجبالها الشاهقة وأوديتها التي تنساب إلى البحر الأحمر من ناحية، وإلى وادى النيل من ناحية أخرى؛ كم هي ساحرة ورائعة وتأخذ بالألباب!.. كانت دراستي لدرجة الماجستير في المنطقة الكائنة غرب ميناء سفاجا على ساحل البحر الأحمر.. وفي يناير عام ١٩٦٩، بدأت رحلة درجة الدكتوراه.. وقد أراد أستاذي (رحمه الله) أن أستكمل ما بدأناه في درجة الماجستير، وهي دراسة التاريخ الجيولوجي لغرب وجنوب المنطقة السابقة، في مساحة لا تقل عن ألفي كيلومتر مربع.. لكن كيف يمكن أن يتم ذلك والإمكانيات التي كانت موجودة تحت أيدينا آنذاك محدودة وضعيفة؟ صحيح أن الأحلام والأماني عادة لا حدود ولا سقف لها، لكن لا بد للإنسان أن يعيش واقعه وأن تكون حركته لتحقيق أهدافه وأمنياته في حدود المتاح أمامه. 

بدأت العمل فعلا بنفس الإمكانيات الضعيفة السابقة.. وفي صبيحة أحد الأيام، تعطلت بنا العربة، حاولنا إصلاحها من خلال إمكانات شركة سفاجا للفوسفات، فلم نفلح.. اضطررنا في نهاية الأمر إلى مخاطبة الجامعة لإحضار جرار لسحبها إلى أسيوط.. علمت أن هناك عربات لوري تابعة للشركة تنتقل إلى مناجم الفوسفات بمنطقتي "أم الحويطات" و"وصيف"، حيث كانت قريبة من الحد الشرقي لمنطقة دراسة الدكتوراه.. حملت أمتعتي الخاصة وانتقلت إلى هناك بمفردي، حيث استقر بى المقام في استراحة متواضعة تابعة لمنجم "وصيف".. ومن هذا المكان تحركت على قدمى عشرات الكيلومترات، وصعدت جبالا شاهقة، حاملا معى عيناتي الصخرية التي كنت أجمعها؛ متمثلا في ذلك ما قاله أبو القاسم الشابي، شاعر تونس العظيم: ومن يتهيب صعود الجبال.. يعش أبد الدهر بين الحفر. 

استمر المكث في هذه الرحلة عشرة أيام، كانت من أصعب الفترات في حياتى، لكن المعلومات الخاصة بالتراكيب الجيولوجية ونوعيات الصخور التي رأيتها وعثرت عليها كانت رائعة، ولعبت دورا من أعظم الأدوار في تشكيل عقليتي الجيولوجية وتكويني النفسي والعاطفي والوجداني.. يقال الرفيق قبل الطريق، لكن مع الهمة العالية والعزم القوى والإرادة الصلبة مع وعورة الطريق، يستطيع الإنسان أن يحقق بمفرده أعظم المنجزات.. وقد كانت هذه الفترة العصيبة ذخيرة لي في مستقبل الأيام، حيث أتيح لى أن أكتشف ما لم يكن يتاح لى في ظروف أخرى.. وعلى مدى نحو خمسين عاما ترددت على مناطق أخرى كثيرة بالصحراء الشرقية المصرية.. وبعد كل هذه السنوات، صار ارتباطي بها ارتباط عاشق لمعشوقته.
الجريدة الرسمية