رئيس التحرير
عصام كامل

ويستمرالعلاج على نفقة الأطباء


تتفشى في مصر ثقافة دمرت على مدار الزمن الخدمات الصحية التي تقدم للمصريين مفادها أن الطب ليس له تكلفة، وأن الخدمة الصحية يمكن أن تقدم للمرضى مجانا!، تطلب ترويج تلك الأكاذيب إشاعة كلام من نوع أن العمل بالطب ليس مهنة كباقى المهن التي يعمل بها صاحبها لكسب العيش وتغطية نفقاته ونفقات من يعول، ولكنه رسالة سامية تتطلب من صاحبها التسامى عن احتياجات البشر والعمل دون مقابل وتدبر احتياجاته واحتياجات أسرته بأى طريقة أخرى تتناسب مع سمو تلك الرسالة، كأن يعيش كالنباتات على التمثيل الضوئى مثلا، أو أن يستغنى عن احتياجات البشر الأساسية ويعيش كالحجر الأصم.


وكأن من يعملون بالقضاء أو التعليم أو المحاماة أو الهندسة أو الشرطة ليست لهم رسائل سامية في خدمة الناس. ولمعرفة ما حدث علينا أن نعود إلى الوراء مائة عام تقريبا تاريخ بدء تأسيس النظام الصحى المصرى بإنشاء المستشفيات المركزية عام 1923 في عهد الملك فؤاد رحمه الله، ثم تبعها في عام 1928 إنشاء مستشفيات قروية تكاملية على شكل وحدات صحية بكل منها سريران لحجز المرضى. وتوج ذلك بصدور المرسوم الملكى في السابع من أبريل 1936 بإنشاء وزارة الصحة العمومية على شكل ثلاثة مصالح عمومية هي مصلحة المستشفيات العامة ومصلحة الحميات ومصلحة الصحة القروية.

وبدأ رسم الخريطة الصحية لمصر في عام 1942 بصدور القانون رقم 64 والخاص بتحسين الصحة في الريف، والذي قرر تأسيس إدارات للصحة والهندسة في كل مديرية من مديريات مصر حيث عملت هذه الإدارات على تحسين الظروف الصحية العامة، كما قرر القانون أيضًا إنشاء المجمعات الصحية بحيث يخدم كل مجمع صحي 150000 نسمة.

كانت مصر في الأربعينات من أغنى دول العالم ويسعى مواطنو كل دول العالم للهجرة إليها للإقامة والدراسة والعمل وأصبحت مصر من الدول الدائنة وبلغت ديون بريطانيا العظمى لمصر أكثر من أربعمائة مليون جنيه إسترلينى، وكانت الدولة تتحمل تكلفة علاج المرضى في المستشفيات العامة وأنشأت الأسر الغنية المستشفيات الخيرية كقصر العينى والدمرداش، وتراوح راتب الطبيب ما بين 20 و25 جنيها مصريا أي أكثر من 20 جنيها ذهبيا، وهو ما يعادل أكثر من مائة ألف جنيه مصرى بسعر اليوم.

وبعد إعلان الجمهورية ومع الحصار الذي تعرضت له مصر وبيع جزء كبير من إحتياطها من الذهب وتناقص قيمة الجنيه المصرى لم يكن من الحكمة أن تعد الحكومات المتعاقبة باستمرار تحمل تكلفة الخدمات مع عدم قدرتها على تدبير تلك التكلفة، وزاد الأمور سوءا الإعلانات الدعائية السياسية المتتالية عن مد مظلة العلاج المسمى بالمجانى نظريا بقرارات سياسية دون أي دراسة جدوى أو تمويل بضم فئات من المجتمع بالملايين، حتى صار المغطون نظريا بالتأمين الصحى قرابة الستين مليون مواطن دون وجود خدمات حقيقية أو تمويل يكفى هذا العدد، إضافة للعلاج المسمى إدعاءا على نفقة الدولة، وبدأت الحكومات المتعاقبة في محاولة تقليل الأسعار المتزايدة للخدمات عن طريق منع زيادة رواتب العاملين بالقطاع الخدمى وخاصة القطاع الصحى، والذي يتميز العاملون فيه عن باقى القطاع الخدمى بساعات العمل الإضافية الإلزامية سواء كانت نهارية أو ليلية حتى أن رواتب الأطباء والتمريض قد قلت قيمتها الشرائية منذ 1952 وحتى الآن بنسبة قد تزيد عن 95%.

واستمرت المزايدات السياسية والأحاديث العنترية عن تغطية شاملة لكامل الشعب المصرى دون أية دراسة جدوى لتكلفة خدمة صحية آدمية بضماناتها المعروفة، وهى حقوق العاملين الضامنة للتفرغ والجودة والانتشار، واستمرت الشعارات الرنانة والبالية والتي دمرت كافة الخدمات في مصر، فالسياسيون يتنافسون في المزايدة الكلام عن المجانية وتخفيض الاشتراكات ومنع المساهمات حتى من يلبس منهم القناع النقابى، ولا أحد يتكلم عن تحديد مستوى الجودة المستهدف أو الرواتب الحقيقة الواجبة للأطباء والتمريض لضمان التفرغ الكامل والقضاء على تضارب المصالح والإحساس باليأس والكراهية والذي من المستحيل أن ينتج عنه عمل جيد، ولا عن تكلفة سد الفجوة بين المستوى الحالى من الخدمة الصحية كما وكيفا وانتشارا وبين المستوى المستهدف.

الكل يهتف إما بالدفع في سبيل الإنجاز الوهمى أو في الاعتراض على إن الوعود ليست سخية بما يكفى! وبين أولئك وهولاء يضيع الأمل في إصلاح حقيقى وممكن بشرط أن يبنى على الواقعية والموضوعية.. على الشفافية والإخلاص والجرأة في مواجهة الأكاذيب الموروثة.. على الإصرار على بدء تغيير حقيقى وتدريجى وفى حدود الإمكانيات المتاحة بدلا من الإدعاء بأننا قادرون دون أي تمويل جدى أن نحقق ما فشلت فيه أغنى دول العالم من تقديم خدمة جيدة وتغطية كاملة. دون ذلك تستمر القوانين كأحلام كتبت على الورق ويستمر الحال كما هو عليه من خدمة طبية رمزية بتكلفة مخفضة خصما من رواتب الأطباء والتمريض وكأن الهدف أن يستمر العلاج لقلة من المواطنين وعلى نفقة الأطباء والتمريض.
الجريدة الرسمية