رئيس التحرير
عصام كامل

بتغني لمين ولمين يا حمام؟!


الأستاذ (محسن حمام)، موظف إداري بأحد المستشفيات الكبرى، بيورد عليه أشكال وألوان وأصناف من المرضى والمحتاجين، اللي عايز إمضا، واللي مستعجل على ختم، واللي بيحلم يلحق يصرف العلاج لأمه قبل ما السر الإلهي يطلع، ولكن تبقى النتيجة في النهاية إن السر الإلهي بتاع الأم بيطلع بسبب الانتظار، وبياخد جنبه السر الإلهي بتاع الابن اللي بيطلع بدوره بسبب الجري والمرمطة بين المكاتب والأروقة وآخر الطُرقة بحثًا عن الأستاذ (حمام)!


(حمام) لا يدخر جهدًا في العمل آي نعم، لكنه مُنظَّم بشكل يثير الذهول، فهو يصل إلى المستشفى في التاسعة رغم أنه من المفترض أن يجلس على مكتبه في الثامنة، ويقول دائمًا إن هذا التأخير التافه لن يضير أحد أبدًا، مُجرَّد ساعة بيعدي فيها العيال على المدرسة، ويجيب لمراته الخضار ويحشرهولها في السبت أبو حبل اللي بتدلدلهوله من البلكونة في الدور الخامس بدل ما يطلع سلم بتاع البيت وينزل تاني ويضيَّع وقت الجماهير المنتظرة في المستشفى، لأ جدع يا عم (حمام)!

المُهم أن يوم جنابه بيبدأ في التاسعة، فيدخن سيجارة، ويصطبح بالوش اللي يحب يصطبح بيه بعد أن يتأمل الطابور الطويل الواقف خلف الشباك أبو حديد في انتظار إمضاءه الكريم وختمه الميمون على الاستمارات والأوراق لتسهيل الأحوال للمحتاجين الذين أنهكهم المرض، وقصم ظهورهم الهَم والجري والمرمطة مع ذويهم من المرضى، يقول (حمام) إنه يختار أجمل وجه في وجوه اللي واقفين قدامه في الطابور الطويل من ستات أو رجالة لا فارق، ويطلب منه أن يستفتح بيه ويخلَّص له ورقه حتى لو كان ناقص على سبيل التفاؤل، طيب لو معجبكش أي وش فيهم يا عم (حمام) خصوصًا وإنهم مرضى أو مرهقين أو زهقانين أو قرفانين في عيشتهم؟ يقول لَك ولا حاجة، بفضل ألعب في الدوسيهات اللي قُدامي، أو أتكلم مع حد من زمايلي، أو أعمل مُكالمة تليفونية على ما يوصل الصيد، ونبدأ الشُغل على ميَّة بيضا!

حجة (محسن حمام) واضحة وصريحة، هو عاوز يبدأ اليوم باصطباحة كويسة علشان يعرف يخدم الجمهور بمزاج وإخلاص، طيب لو الناس تمرَّدت أو أعلنت غضبها؟ بسيطة، بيمسك أول واحد غضبان منهم، ويستلم منه ورقه ويشركهوله، ويفسِّر (حمام) معنى يشركهوله قائلًا: لازم تلاقي إمضا ناقصة، ختم مش واضح، تاريخ مهزوز، كرمشة في أي ورقة، ولو زهقت خالص أقول له صوَّر لي بطاقة المريض أربع صور، وبطاقتك صورتين، وجواز سفر والدك صورة، وهاتلي ست صور لـ(ميرڤت أمين) وهي في تانية إعدادي، بالإضافة لصورة من شهادة وفاة المرحوم (إبراهام لينكولن)!

وهكذا يفرض عم (حمام) سيطرته على الحَوَش الواقفين قدامه في انتظار الوجه الحسن، ماهو لا يبقى خضرة ولا وجه حسن؟ برضو ميصحِّش، وبعد ما يبدأ العمل وقت ما يبدأ، ضروري ينزل الساعة عشرة بالزبط على عربية الفول يشتري فطاره من هناك، متنقي وآخر تمام، شوية فول في شقتين عيش بلدي، وجرجير، وبصل، ومخلل، وسلاطة، ويجيبهم في كيس بلاستيك شفاف، ويعدي قدام الناس المنتظرين أمام الشباك والبيبان ومداخل ومخارج المستشفى، ويقعد يفطر على مكتبه، ولو حد اعترض يقول له: يا أخي أنا على لحم بطني من إمبارح وبشتغل لكم من الصبح، هي اللقمة دي اللي هتعطلَك؟!

ينتهي إفطار عم (حمام) في الحادية عشرة، فيطلب الشاي علشان يحبس، ثم القهوة علشان يزبط الدماغ، ويدخن سيجارتين ورا بعض على التوالي لا على التوازي، وعلى ما يبدأ يشوف شغله يكون الظهر بيقول الله أكبر، وطبعًا بصفته رجل ورع ومُتقي فملعون أبو الشغل على أبو الناس اللي مُمكن تدخَّله النار وتخليه يغضب ربنا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقتها بيقوم يقلع مداسه ويلبس الشبشب البلاستيك ويشمَّر بنطلونه وقميصه لو كان لابس بكُم، ويطلع على الحمام، يتعامل مع الفطار وعشاء إمبارح براحة راحته كأنه مصنع فرز مخلفات نووية، وبعدين يتوضأ ويرجع يصلي في المكتب لأن صلاة الجماعة في المسجد بتكون انتهت من نُص ساعة على ما هو يكون خلَّص الحمام النووي!

وعلى ما يبدأ عم (حمام) يشتغل تاني بتكون الساعة دخلت على واحدة، والعيال هيخرجوا من المدرسة، والضنا غالي يا أسيادنا، ويقول حضرته "طيب حُط نفسَك مطرحي.. تسيب عيالَك في الشارع لوحدهم والدنيا مفيهاش أمان، ممكن حد يخطفهم ويسرق أعضاءهم، أو يبيعهم نخاسة زي فيلم وا إسلاماه، أو يدوسهم بعربية، أو يشحت بيهم في المترو، تسيبهم إنت كدة واللا تجري عليهم علشان تروَّحهم وتطمن عليهم؟" طبعًا رأي وجيه، والمريض يستنى لبكرة مش مُشكلة، فالأعمار بيد الله كما يؤكد عم (حمام) وهو ينصح المستعجلين والمتسربعين والغاضبين وقت ما بييجي يقفل الشباك أبو حديد وهو بيقول لهم استنوا لبكرة، وبكرة مش بعيد، إحنا هنروح من بعض فين؟!

بالمُناسبة.. عم (حمام) بيحب يغني، وبيعزف على الناي الحزين، ويتحدَّث باكتئاب أثناء جلساته على القهوة بعد المغرب عن الفساد والسرقة وانهيار أحوال البلد، ويهاجم غلاء الأسعار بمرارة، ويحلف ميت يمين طلاق إنه كان زمان بخمسة تعريفة بياكل رغيفين فول وطعمية ويشرب شاي ويحبس بسيجارتين، مش زي دلوقتي ساندوتش الفول بتلاتة جنيه، وبالمُناسبة كمان عم (حمام) مش بيصلي أي فرض في اليوم غير الظهر فقط، لأنه الصبح بيبقى مستعجل، والعصر نايم بعد الغدا، والمغرب والعشا على القهوة، لكن الحق يتقال إنه راجل مُحترم عُمره ما أخد رشوة، ولا ساب مراته تنشر الغسيل المنقط على غسيل الجيران الناشف!
الجريدة الرسمية