رئيس التحرير
عصام كامل

«صداقات العمر في حياة الغيطاني».. 50 عاما بين الدرويش ونجيب محفوظ والزيني يوثقها في كتابين.. الأبنودي وصاحب التجليات «روح واحدة في جسدين».. و«سارتر» ينقذه من سجون عبد الن

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

مثلما كان مبدعا متفردا بين الأدب والصحافة والتقديم التليفزيوني، كان عقلا فيلسوفا وإنسانا متصوفا في علاقاته، كان أيضا محظوظا بمصادقة الكبار، فجمعته الحياة دون علم منه أو اختيار، وكأن القدر سخر له عمالقة الأدب والفن والثقافة لترتبط حياته بهم، يؤثروا فيه ويؤثر فيهم، فالعمر لا يحسب دون رفيق يشاركك أفراحك وأحزانك.


محفوظ والغيطاني

القدر وحده هو من صاغ الموعد الأول بين الدرويش والأستاذ، الروائي جمال الغيطاني وأديب نوبل نجيب محفوظ، ففي حدود العاشرة صباحا أحد أيام الجمعة الخريفية عام 1959، رأى الغيطاني أديب نوبل لأول مرة، قادما ناحية ميدان العتبة الخضراء متجها إلى مقهى الأوبرا.

ويقول الغيطاني: "كنت أقف في مواجهة الجانب الجنوبي للأوبرا القديمة التي افتتحت في عهد الخديو إسماعيل، أنتظر زميلا يسكن في تلك العمارة المطلة على شارع عبد الخالق ثروت، وعندما ظهر نجيب محفوظ كنت أمسك مجموعة قصصية لأنطون تشيكوف، فتقدمت منه وألقيت عليه التحية، فبادرني بنظرته الهادئة المتأملة، وقلت له إنني مبسوط لرؤيته، وأقرأ له، وأكتب أيضا، فأبدى ترحيبا ودعاني للندوة الأسبوعية، قائلا «إحنا بنقعد كل يوم جمعة من الساعة العاشرة»، ومنذ تلك اللحظة وكان عمري في ذلك الوقت 15 عاما.

وبدأت علاقتنا وتطورت عبر السنين، فانتقلت بصحبته وتحت رعايته من الشباب إلى الشيخوخة، وعشت معه أفراح وأحزان الوطن والإنسانية، وكذلك خلجاتنا الإنسانية، وقدر لي أن أكون آخر من يراه نجيب محفوظ، وكان ذلك في مستشفى الشرطة الساعة الثانية عشرة ليلا، قبل أن يرحل عن الحياة بساعة واحدة".

خمسون عاما، لا يمكن فصلها من حياة الغيطاني ومحفوظ، والتي لخصلها أديب نوبل نجيب محفوظ في كلمتين: "جمال..ده ابني"، فالعلاقة بينهما عميقة ومعقدة أثرت في رحلة كليهما، بداية من حب التراث واستدعاء التاريخ وذاكرة المكان في حي الجمالية وحب الحسين، نهاية بالذوبان في المعنى الصوفي والفلسفي الكامن في الأبنية القديمة، ليوثقها الغيطاني بكتابين «نجيب محفوظ يتذكر» و«المجالس المحفوظية».

الأبنودي والغيطاني.. «روح واحدة في جسدين»
الصداقة الحقيقية تنشأ وقت الشدة، هكذا بدأت العلاقة بين جمال الغيطاني والخال عبدالرحمن الأبنودي، عندما كان يقطن الأبنودي في الزنزانة المواجهة لزنزانة الغيطاني بمعتقل القلعة عام 1967، ويقول الغيطاني: "كنت متهما بالانضمام لتنظيم حزب شيوعي، وكنت يساريا متشددا أسعى مع زملائي إلى تغيير العالم، وكان معى في المعتقل مثقفين منهم صلاح عيسى ويحيى الطاهر عبدالله، وإبراهيم فتحي وسيد حجاب".

ويبدو أن العلاقة بينهما لم تكن صداقة بين أديب وشاعر، وإنما روحان تعلقا ببعضهما البعض، فيصف الغيطاني واقعة تكشف سر الارتباط بينه وبين الخال قائلا: "من نحو سنة -2014- كلمني الأبنودي وكان بيننا مكالمة هاتفية ثابتة في الحادية عشرة ليلا، ولكن في تلك المكالمة كانت نبرة صوت الأبنودي غريبة جدا، ولم أسمعها من قبل، وأنا أحفظ نبرة صوته كأسماء أولادي، بدا صوته غريب الإيقاع وكأنه يأتي من عالم آخر، يذكرك بأجدادنا في الصعيد ممن عركوا الحياة وأحسوا بدنو الأجل، ويرون الموت قادما، وتصبح كلماتهم نبوءة، وبتلك النبرة الفريدة قال الأبنودي: يا جمال أنا هموت السنة الجاية أنا وسيد الضوي!

ألجمتني المفاجأة وضاع مني الكلام.. وقلت له مخففا: "إيه اللي بتقوله ده أنت هتشيعنا كلنا يا عبدالرحمن"، والموت إحساس، فأنا نفسي تعايشت معه مرتين، في عمليتين للقلب المفتوح ووقت الحرب، وأظن أن الأبنودي ليلتها لم يشأ أن يكمل النبوءة ويخبرني بأن سأكون ثالثهم وسألحق بهم في العام نفسه، وعبد الرحمن جزء مني وموته مقدمة لي، فنجوت من الموت مرتين والتالتة تابتة!

سارتر ينقذ الغيطاني من السجن

في واقعة غريبة، نشأت صداقة بين الأديب جمال الغيطاني والفيلسوف والروائي جان بول سارتر، دون أن يعرف كلاهما الآخر، فسارتر كان المنقذ بالنسبة لجمال الغيطاني ورفاقه من سجون عبدالناصر في الستينيات، ويحكي الغيطاني قائلا: "كان عمرى 22 عاما، وكنت وقتها خارجا من المعتقل لسبب غريب جدا، وهو زيارة سارتر لمصر، والذي قال لن أضع رجلي في مصر إلا بعد الإفراج عن مجموعة المثقفين المعتقلين بدون اتهام، وخرجنا في وقت غريب جدا أيضا في الساعة الخامسة بعد الظهر، وغرابة التوقيت تكمن في أنه وقت إغلاق إدارة السجن".
الجريدة الرسمية