رئيس التحرير
عصام كامل

أجهزة تزييف الوعي في ثوبها الجديد!!


يعد الوعى من المفاهيم الرئيسية في تراث الفكر الإنسانى، فقد تناولته الدراسات الاجتماعية بمختلف حقولها وتخصصاتها العلمية بشكل كبير، نظرا لأن مفهوم الوعى قديم قدم الفكر ذاته، وعلى اعتبار أن الفكر الإنسانى يعبر عن أرقى شكل من أشكال الوعى، وقد حظى مفهوم الوعى بأهمية كبيرة من قبل الفلاسفة والعلماء، لدرجة أن مشكلات الفلسفة الحديثة تكاد تنحصر في المشكلات الخاصة بالوعى.


وحتى لا نخوض في تفاصيل ليس محلها هنا، فالوعي يمكن تعريفه بشكل مبسط بأنه "إدراك المرء لذاته ولما يحيط به إدراكا مباشرا وهو أساس كل معرفة"، ووفقا لهذا التعريف فإن هناك ثلاثة مكونات للوعى هي: المعرفة التي يحصل عليها المرء من مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، ثم الموقف الذي يتخذه المرء من هذه المعرفة سواء بالإيجاب أو السلب، وأخيرا السلوك الذي يتحدد بناءً على الموقف المتخذ من المعرفة المكتسبة، وهذه المكونات الثلاثة تشكل بنية الوعى لدى الأفراد داخل المجتمع.

وبما أن المعرفة هي المكون الأول للوعى الإنسانى فلابد من التركيز على مصادر الحصول على هذه المعرفة، والمؤسسات المنوط بها مد الإنسان بهذه المعرفة، وبما أنه قد أصبح من المعروف والمستقر عليه في الفكر الإنسانى أن الإنسان كائن اجتماعى، حيث يولد كصفحة بيضاء يتم الكتابة عليها وتشكيلها عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة، وهنا تبرز مؤسسات التنشئة الأولية مثل الأسرة كمؤسسة أولى للتنشئة الاجتماعية، يليها المدرسة ثم الجامعة، هذا إلى جانب بعض المؤسسات الأخرى الثانوية كالمؤسسة الدينية (المسجد– الكنيسة– المعبد)، والمؤسسات الترفيهية كالأندية (الاجتماعية– الثقافية– الرياضية)، ومؤسسات المجتمع المدنى (الجمعيات الأهلية– النقابات المهنية- الأحزاب السياسية)، هذا إلى جانب وسائل الإعلام.

وكانت هذه المؤسسات والأجهزة تاريخيا تلعب دورا محوريا في تشكيل وعى الإنسان عبر مده بالمعرفة اللازمة لفهم ما يدور حوله وتحديد موقفه وبالتالى سلوكه تجاه مواقف الحياة المختلفة، لكن وللأسف الشديد بدأت هذه المؤسسات والأجهزة الرئيسية (الأسرة – المدرسة– الجامعة) تفقد دورها داخل مجتمعاتنا العربية، فلم تعد الأسرة تقوم بدورها في عملية التنشئة الاجتماعية نتيجة لانشغال الوالدين عن القيام بدورهما المنوط بهم في هذا الإطار، فلم يعد الطفل يتلقى معارفه الأساسية من الأسرة كما كان في الماضى، ونفس الأمر فيما يتعلق بالمدرسة التي تدهورت أحوالها إلى حد كبير، وفقدت أحد أهم أدوارها وهى المشاركة في تشكيل وعى الأبناء عبر المصادر المتنوعة للمعرفة الإنسانية، وأصبحت وسيلة للتلقين والحفظ فقط، وكذلك الجامعة التي لم تعد تمد الطلاب إلا بمجموعة من المعارف التخصصية يتم بها حشو أدمغة الطلاب دون تحفيزهم على إعمال العقل.

وما ينطبق على مؤسسات وأجهزة تشكيل الوعى الأولية قد طال مؤسسات تشكيل الوعى الثانوية، فلم تعد المؤسسات الترفيهية تقوم بأدوارها في هذا الشأن، وكذلك المؤسسات الدينية التي لعبت أدوارا سلبية للغاية في نشر الأفكار المتطرفة، أما مؤسسات المجتمع المدنى فيكاد دورها يختفى داخل مجتمعاتنا العربية. وفى ظل هذا الغياب والتراجع لمؤسسات وأجهزة التنشئة التقليدية بدأ الإعلام يأخذ دورا أكبر في عملية تشكيل الوعى، حيث أصبح هو الوسيلة الرئيسية التي يستمد منها الإنسان معارفه الأساسية وفى كافة المجالات.

وهنا أدركت القوى الاستعمارية الجديدة في العالم والمتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية ومعها اللوبي الصهيونى أهمية هذه الوسيلة فبدأت بالسيطرة عليها لكى تتحكم في مصير هذه المجتمعات، فإذا كانت وسائل الإعلام هي المتحكم الرئيسي في عملية تشكيل وعى الإنسان العربي فعندما يتم السيطرة على هذه الوسائل يمكنها بسهولة تزييف وعيه عبر التحكم في المعرفة التي يستمدها عبر هذه الوسائل.

وخلال العقدين الأخيرين قامت بتطوير الآلة الإعلامية الجهنمية الجبارة لتتحول إلى جنرال في الحرب على مجتمعاتنا العربية، فظهرت الشبكة العنكبوتية للمعلومات(الإنترنت) ومن خلالها ظهرت مواقع التواصل الاجتماعى مع تطوير في تكنولوجيا الهاتف المحمول، وبذلك أصبح كل إنسان يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة التي يستطيع من خلالها الحصول على ما يشاء من معلومات ومعارف، تشكل المكون الأول لعملية الوعى، وإذا كانت المعلومات والمعارف زائفة فإن ما سيتم ليس تشكيلا للوعى بل تزييفا له.

ويمكننا ملاحظة حجم التزييف الذي مارسه الجنرال إعلام خلال سنوات الربيع العبري، حيث استخدمت كل آلياته القديمة والجديدة في تدمير مجتمعاتنا العربية من الداخل، فعبر الجزيرة وغيرها من القنوات الغربية التي تبث بالعربية تم تزييف وعى المواطن العربي فيما يتعلق بالأحداث التي تدور داخل مجتمعه والمجتمعات العربية المجاورة، فعندما تسأل مواطن عربي من أين استمد معلوماته عما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية؟ فسيسارع فورا ليؤكد لك أنها عبر وسائل الإعلام خاصة الجزيرة وغيرها، والآن إذا سألت الشباب الذي يشكل ما يقرب من ثلثى سكان الوطن العربي من أين تستمد معلوماتك؟ فسوف يؤكد أنها من خلال الإعلام في ثوبه الجديد عبر شبكة الإنترنت ومواقع البحث الرئيسية عليها مثل جوجل واليوتيوب وفيس بوك وتويتر.

وهنا لابد وأن ندرك مدى المأزق الذي وقعت فيه مجتمعاتنا العربية، لذلك لابد من عودة مؤسسات وأجهزة التنشئة الاجتماعية الأولية والثانوية إلى لعب دورها من جديد في عملية تشكيل الوعي، ولا نترك الساحة للجنرال إعلام الأمريكى- الصهيونى بأجهزته المستحدثة ليقوم بتزييف وعى المواطن العربي، بحقيقة قضايا ومشكلات مجتمعه الأساسية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
الجريدة الرسمية