رئيس التحرير
عصام كامل

لا شيء يعجبني!


اجتمعنا من مناطق متفرقة، ولم يكن أكبرنا قد تجاوز الرابعة عشر.. بدأ الليل بهبة رياح خفيفة عوضتنا عن حرارة النهار.. أمسك كل واحد منا بكشاف لإنجاز مهمة محددة، وهي "صيد الكابوريا" من شواطئ الإسكندرية!


البعض بدأت معه هواية ثم انقلبت إلى مهنة حصلوا منها على لقب "صياد"، وأصبحوا يقضون أوقاتًا في البحر أكثر من منازلهم، وغيرهم أدمنوها لدرجة التوقف عن مطاردة أحلامهم، والاكتفاء بمطاردة الشراغيش، بعدما أصبح الاهتمام بالبطاطا والبلطي مقدمًا على الأبناء والزوجة.

كنت على موعد مع صديق قديم ممن جمعتنا يومًا ساعات اكتشاف مخابئ الكابوريا.. انتظرته على الشاطئ متأملًا الجهد الذي يبذله الصيادون في سحب شبكة كبيرة، ليكتشفوا بعد خروجها أن نصيبهم بضع سمكات، والكثير من الزجاجات الفارغة والأعشاب البحرية، لتتردد في الأجواء عبارة (الدنيا اتقل خيرها). 

جاء صديقي القديم ليخبرني بأنه وُلد في سنة عرض مسرحية (الواد سيد الشغال) التي فتح بها أحدهم السمكة فلم يجد الخاتم، بعدما اختبأ بجوار أحلامنا بين ثنايا صخور الواقع الحادة وكتل الصعوبات الخرسانية مثلما اختبأت الكابوريا في تلك الليلة.

ذكرني بوقوفنا أمام "فاترينة" محل بيع أدوات الصيد، وحلمنا بأن نكبر حتى نشتري بدلة الغطس ونصطاد بالرمح بعدما أدهشتنا كلمات الوصف التي خرجت من بائع المحل، حينما وصف بنادق الصيد تحت الماء.

ودعته بعد أن سعدت للغاية أنه أشترى تلك الأدوات ويستخدمها أحيانًا في الصيد، أما هو فقد أخبرني بسعادته لاستكمالي الدراسة، وحصولي على عمل آخر بعيدًا عن متاعب الصيد.. كنت أتأمل البحر وأسمع من مكان مجهول تردد جمل متفرقة من قصيدة لمحمود درويش (لا شيء يعجبني).. (أريد أن أبكي).. ثم يرد الصوت نفسه بعد برهة مستكملًا (انتظر الوصول إلى المحطة، وابْكِ وحدك ما استطعت)!

سقوط الشمس في البحر ذكرني بتلك الليلة التي سقط فيها الصياد العجوز، والأخير روى لي مغامراته.. كنت أظن وقتها أنه سيحكي عن كنوز شاهدها، أو جزر عجيبة زارها، ولكنه خيب رجائي عندما قال إن النوم داهمه يومًا من شدة الإرهاق، بينما كان يجلس فوق الصخور، منتظرًا تحرك السنارة، ولكنه فجأة شاهد "عروسة البحر" تناديه لللحاق بها ورغم سعادته بمطاردتها إلا أنه استيقظ ليجد نفسه وسط الماء وقد كاد أن يغرق.

حكاية الصياد أعادتني لسنوات لم أكن أرتدي بها إلا الشورت الذي يناسب طفل يزور مع والده وأخته متحف الأحياء المائية لأول مرة، مشاهدًا عروسة البحر، ومندهشًا من الهياكل العظمية للأسماك المحنطة.

قبل مغادرتي دفعني شيء للمرور مجددًا على صديقي لمراقبته أثناء الصيد، وقتها شعرت بالدهشة من ترتيبات القدر.. كنا صديقين لنا أحلامنا المشتركة التي نجح وحده في تحقيقها، ولكنه في النهاية لم ينل السعادة التي تمناها لأنني رأيت في عينيه نظرات شك وحيرة تجاه ما وصل إليه، ورغم أنني رأيتها بقوة في عينيه، لكنني أتخوف من شعوري بأنها مجرد انعكاس لما رأه في عيني!
الجريدة الرسمية