رئيس التحرير
عصام كامل

راعي مصر.. حلم الصعيد


على حجر بقبر أمنحتب وجدوا ذلك مكتوبا «لم يوجد في عشيرتى بائس ولا في عهدى جائع، وعندما حلت سنوات القحط حرثت الأرض وضمنت بذلك حياة لأهلها وساويت في العطاء بين من فقدت زوجها ومن لم تفقده، ولم أفرق بين العظيم وغير العظيم، وعندما عاد الخير لم أسترد ما أعطيت».. خلص الكلام كما يقولون في العامية المصرية، فالعطاء كرامة وكبرياء وليس من شيم الكبار معايرة المحتاج أو بث إحساس الإهانة إليه.


لقد شهدت مصر أول جمعية أهلية عام ١٨٢١م، وكانت جمعية يونانية قام على إنشائها نفر من اليونانيين الذين عاشوا في مصر، وأعلنوا من خلالها مساندة القضية الوطنية المصرية باعتبارهم مصريين، يعيشون على أرضها ويأكلون من خيرها.. أنشأوا من خلال جمعيتهم ثمانين مدرسة وعشرة مستشفيات كبرى و٣٥ كنيسة، وانطلق العمل الأهلي في مصر وأقبل المصريون على تنظيم أنفسهم، ووقف ما يملكون لصالح أعمال جليلة قفزت بالعمل الأهلي التطوعى في البلاد بشكل أذهل العالم المتحضر كله.

منذ هذا التاريخ ولا يزال العمل الأهلي التطوعي في طليعة الصف الوطني إلى يومنا هذا.. أصيب بانتكاسات وحقق انتصارات، غير أن الواقع يؤكد دوما أن الناس في مصر لا يزالون في مقدمة الأمم، ويكفي أن نعرف أن مشروع مستشفى سرطان الأطفال قائم في ٩٥٪ منه على تبرعات البسطاء.

لا يزال قطار الخير يجرى، فجامعة القاهرة أعرق الجامعات المصرية إنما قامت على العمل الأهلي التطوعي، وهناك آلاف المشروعات التي تشير إلى عبقرية المصريين، وإخلاصهم لوطنهم وقدرتهم على العطاء في أحلك اللحظات.. أحدث مشروعات المصريين ما قامت عليه الدكتورة ليلى إسكندر وزيرة التطوير الحضاري والعشوائيات في حكومة محلب، ومعها المستشار أمير رمزي ونخبة من المخلصين المصريين... فماذا فعلوا؟!

في واحدة من جلسات الصفاء المصرى بمنزل المستشار أمير رمزي، حضرها عدد كبير من مثقفى مصر وقضاتها وصحفييها وخبرائها ورجال أعمالها، ضمت الدكتورة ليلى إسكندر.. الفنان هاني رمزي.. المستشار خالد المحجوب.. المستشار مصطفى إبراهيم.. الدكتور إيهاب رمزى.. الدكتور أسامة عقيل.. الدكتور سعد الجيوشي.. الدكتور محمد قناوي رئيس جامعة المنصورة.. الدكتور محمد ربيع رئيس جامعة الدلتا.. الدكتور أحمد العزبى.. الدكتور محمود عمارة.. الدكتور صلاح الغزالى حرب..الدكتور مدحت أبو زيد.. الدكتور هانى قسيس.. ورجل الأعمال المعروف منصور عامر والكاتب الصحفى محمد أمين.. الإعلامي أحمد إبراهيم.. الكاتب الصحفى محمود مسلم.. الكاتب الصحفي بشير حسن، وكاتب السطور.

وكما هي العادة، فإن مصر دوما هي الحاضرة على مائدة النقاش، وكان السؤال الكبير لا يزال يطرح نفسه على مائدة النقاش: هل نستطيع أن نعبر عنق الزجاجة؟.. بين متفائل وآخر على غير ذلك قفزت إلى الساحة عدة محاور ناقشها الدكتور هانى قسيس المتفائل بطبعه طارحا مفهوما صوفيا زاهدا في قضية الملكية، فإذا كان الإنسان لا يملك نفسا يدخل وآخر يخرج فهل حقا هو من يملك الثروة وإن كانت بين يديه؟

من هذا المفهوم انطلق، رجل الأعمال منصور عامر مؤكدا أن سعادة الإنسان في العطاء وليس الأخذ، وأنه من غير المستساغ أن يأكل أناس ويجوع آخرون، على أن هذا العطاء يشكل ركيزة أساسية كانت دافعا له عندما أوقف ثلث ثروته لمشروعات أهلية، تعم على الناس بالخير.. هنا التقطت الدكتورة ليلى إسكندر أم الفقراء في مصر كما أسميها، باعتبارها واحدة من المصريات اللاتى أعلين قيمة التعاطى مع قضايا الفقر في المجتمع المصري وصاحبة الفكرة الإنسانية في قضية العطاء باعتباره حقا للفقير على الغنى وليس منه ولا منحة منه.

كل ما طرح في جلستنا الصافية كان يؤكد أن مصر قادرة على القيام من كبوتها، وقادرة مرة أخرى على الإسهام الحضارى الإنساني مهما كانت الظروف والملابسات.. من بين الملفات التي تحدثت عنها الدكتورة ليلى إسكندر ملف الصعيد.. صعيد مصر الذي يئن تحت وطأة الإهمال على مدار عقود مضت، وخصت بالذكر قضية الصحة وأطلقت أرقاما مذهلة وموجعة، فالصعيد من أسوان حتى الجيزة ليس به مستشفى واحد قادر على الإيفاء بمتطلبات العلاج بكرامة تليق بأهله.

من هنا؛ كانت الانطلاقة المخلصة لبناء مستشفى متكامل على أحدث طراز وفي منطقة بني مزار كمنطقة وسطى في الصعيد، فهي تبعد ١٨٠ كيلومترا من القاهرة و١٨٠ كيلوا مترا من أسيوط.. في صمت لاذ به القائمون على العمل العظيم وبلا جلبة أو ضوضاء، قاموا بفعلتهم النبيلة وها هو الصرح الشامخ يستعد للقيام بدور افتقده أهل الصعيد على مدار سنوات طويلة من الحرمان والفقر والعوز.

لم ينشئ المستشفى الجديد على عجل أو بلا دراسات، حيث أدرك القائمون عليها من المصريين النبلاء أن هناك حاجات مرضية ملحة في المنطقة المستهدفة، فكانت أقسام المستشفى تعبيرا واقعيا عن معاناة الناس… ومستشفى راعى مصر الجديد يضم ٧ غرف عمليات على أحدث طراز طبى و٢١١ سريرا و٢٤ حضانة للأطفال ووحدة تعقيم و٢٤ للغسيل الكلوى و٣١ وحدة عناية مركزة و٩ وحدات عناية للقلب ووحدة للغازات ومعمل للتحاليل ووحدات أشعة لكافة التخصصات ومطبخ رئيسي بمساحة ٧٠٠ متر مربع ومغسلة ووحدة إطفاء.

هكذا بعد مرور نحو ١٩٧ عاما على أول عمل تطوعى منظم في بلادنا نشهد واحدة من المحاولات المصرية الخالصة لتغطية معظم شمال الصعيد ولايزال الطريق أمامنا طويلا للوصول إلى أهلنا في عمق الصعيد المنسي.

الجريدة الرسمية