رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

بثياب جديدة أرتدي الحزن القديم

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

في إحدي ليالي الشتاء الباردة، خلف نافذة يشع منها ضوء خافت، جلست إحداهن شاردة الفكر، ترتشف بعض القهوة، تمد بصرها في الأفق، بيد أن بصرها لم يخترق الحاجز الزجاجي الذي لامسته قطرات المطر وأحاط به ضباب كثيف.


نظرات متكررة إلى العالم الخارجي من نافذة تكاد تمثل عالمها البائس كأنه فتحة ضيقة، تضيق فتضيق لتتسع ومن ثم تضيق، ولازال المطر يهطل.

خطوات قليلة بالخارج تكاد تسمع صداها يتردد مع حبيبات المطر المنهمر، صمت للحظات، لكن سرعان ما ضاقت ذرعا بجلستها.

تحدق في اللا شيء، وذهنها قد هجر هذا العالم الشريد، علّ المطر قد حجب عنها الرؤية، بيد أن غشاوة على قلبها حجبت ما هو أعظم من رؤية ذاك العالم المتهالك.

وأخيرا قررت أن تلجأ لملاذ أوسع من تلك النافذة التي طال المكوث بجوارها، في إنتظار ما لن يحدث، علها تدرك ذلك في قرارة نفسها، غير أنها أنكرت ذلك.

توجهت فتاتنا صوب الباب لتخرج من سجنها الصغير الذي كاد أن يطبق على أنفاسها، لسجن آخر يستقبلها بصدر رحب.

أنتِ!، صوت بنبرة حادة يستوقفها، وبدا أنه وَليها أو ما شابه، إلى أين أنتِ ذاهبة، الغروب يقترب وأوشك الليل أن يحل!

أجابت بصوت متهدج: وأما عن الغروب فلم تبزغ الشمس حتى تغرب، وأما عن الليل فقد حل ليلي منذ حين!

ازدادت حدة الصوت هذه المرة؛ كفي عن العبث بالكلمات، مالكِ تهذين ؟!

تنفست الصعداء وكأنها فترت هذا الحوار العشوائي، وأجابت بنغمة لا مبالية "عذرا، سأحضر بعض الزهرات، سأنضم لكم في المساء"، خرجت صديقتنا وتمنت لو أنها لا تعود ثانية لبئر اللامبالاة هذا، لكن عبثا ما تمنت.

لجأت لمكان اعتادت أن ترى ذاتها هناك دائما، عند بحيرة جميلة مزينة حوافها بورود جميلة، ورود اعتادت أن تنمو رغم الشتاء وبرودته، كم أنتِ صامدة وقوية أيتها الزهرات على نقيضي!

اشتد المطر، وعبرت نسمات الهواء البارد ولامست وجهها، فشعرت برعشة خفيفة أنعشت ذكرى كبتها الزمان أو ربما وارتها هي لزمن، سرعان ما أطلقت لذكرياتها العنان، وحين رفعت عيناها، أحست بوجود طيفه في الأرجاء حولها.

تذكرت حينها حوارا قصيرا قبيل الوداع بأيام معدودات: أنا رجل شرقي طباعه علكِ تدركين مغزي كلماتي!

نظرت حينها بنظرة هيام ممزوجة بالحياء، وأخبرته بنبرة هادئة مداعبة "أحب شرقيتك هذه، وأحب تعابير هذين الحاجبين عندما يتحدان في لحظة الغضب، ويبدوان كسيفين حادين عند الغيرة، وعجبا كيف تتحول تعابير القسوة لدفء واحتواء بعينين منذ أن رأيتهما رفعت مرساتي وأبحرت إلى شواطئهما، حينها عاهدتني إما أن تصلني أو تموت غرقا على ضفاف قلبي".

عندما تذكرت فتاتنا هذه اللحظات الغابرة، انهمرت من عينيها دموعا لم تكن ندما ولا حسرة، كما أنها لم تكن دموع يأس، وإنما دموع خذلان، وما أقسى الخذلان حينما يدركك من أشخاص حاربت العالم لأجلهم فطعنوك، وهجروا مبتسمين كأن شيئا لم يكن يوما يا رفيق.

منذ ذاك الحين ودموعها الحارة تتساقط في البحيرة التي سمعت أنينها وحسراتها، نظرت بعينيها الدامعة إلى الماء، وقالت بصوت تكتنفه ضحكة متألمة "أحببته كما لم تحب امرأة، ونسيني كما ينسى الرجال".

وآه على الشوق؛ قليله يجبر كسري وكثيره يكسرني مرة أخرى !

تلاشت الأفكار من مخيلتي، وتبدل ذاك الإعتقاد الداخلي، ولأني فتاة ميزان؛ فإنني أقف عند مفترق الطرق طويلا، وأقسى عقوبة قد توقعها بي، أن تجعلني أختار.

استوعبَت بعد لحظات أن هطول المطر قد توقف، وهناك هدوء مخيف حولها، عله الهدوء الذي يسبق العاصفة، لكن يا تُري بماذا ستعصف هذي المرة!

Advertisements
الجريدة الرسمية