رئيس التحرير
عصام كامل

الرجل الثاني


ليس زيد بن حارثة.. الرجل الثاني الذي اعتنق الإسلام بعد "علي بن أبي طالب".. ولا هو باز ألدرين.. الرجل الثاني الذي هبط على سطح القمر بعد نيل أرمسترونج.. ولا هو البطل الذي قدمه عز الدين ذو الفقار في فيلمه "الرجل الثاني" الذي قام ببطولته صباح ورشدى أباظة.. ولا هو ذلك الرجل الذي قلب حياة حبيبة نزار قبانى رأسًا على عقب فغير في معالم جسدها وأطفأ لمعان عينها.. فنظم فيه نزار قصيدته الأشهر "الرجل الثاني".


كل هذه النماذج لا أعنيها، فالرجل الثاني الذي أقصده لو قدر له أثناء زيد بن حارثة عن اعتناق الإسلام لفعل، ولو استطاع أن يثني بازلدرين عن الصعود إلى سطح القمر لأثناه.. واصطحبه إلى مقهى وجه القمر.. ولو كان بيده.. لقتل نزار قباني بعد أن وأد أنوثة حبيبته..

الرجل الثاني موجود في كل وزارة وهيئة ومؤسسة، هو الذي يضع فمه في أذن الرجل الأول ليل نهار، يتودد إليه ويتملقه، فإذا اكتسب ثقته.. تصرف وكأنه الرجل الأول.. بقراره.. يصعد من شاء إلى أعلى منزلة.. وبه أيضًا يهبط إلى أسفل سافلين.. ليس شرطًا أن يكون الرجل الثاني نائبًا للرجل الأول، فمنهم من فاقت صلاحياته صلاحيات النائب، ومنهم من تودد إليه الكبار.

الرجل الثاني قد يكون سكرتيرًا أو موظفًا بسيطًا أو حتى عامل بوفيه، هو المصدر الرئيسي لأخبار الرجل الأول، بل إنه عادةً ما يكون الوسيط بينه والموظفين مهما كان قدرهم، تتوفر فيه شروط لا تتوفر في غيره، فلا ينشغل إلا بما يشغل الرجل الأول، يبكى إذا وجده حزينًا.. ويضحك إذا ابتسم، يرتدي الألوان التي يفضلها الرجل الأول، ويدخن نفس نوع السجائر، وإن لم يكن مدخنًا.. تراه ممسكًا بأعواد ثقاب ربما رغب ولي نعمته في إشعال سيجارة.

الرجل الثاني دائمًا مهندمًا.. تفوح من ملابسه رائحة العطر، عذب الكلام، حلو اللسان، خجولًا منكسرًا أمام وليه.. فارس هامته مرفوعة أمام الآخرين، هو الرجل الأول في قرارة نفسه.. خادم بل ماسح أحذية أمام وليه.

الرجل الثاني في كل العصور طالما قاد الرجل الأول إلى حبل المشنقة، أو إلى السجن، أو جعله المكروه غير المرغوب فيه.. بعد أن كان حبيبًا للجميع محبًا لهم، رأينا ضحاياه مؤخرًا محكوما عليهم في عدة قضايا، ورأينا من فقدوا مناصبهم بسببه.. بل فقدوا السكينة في بيوتهم وتشرد أبناؤهم.

الرجل الثاني قد يكون سيدة "سكرتيرة أو مديرة مكتب".. وهنا لا مجال لتصعيد أنثى في وظيفة أعلى إلا إذا قدمت فروض الولاء والطاعة، وكان نصيب السكرتيرة من التدليل والتملق ما يفوق نصيب من تعمل لديه.. والرجل الأول مع هذا النموذج لا قرار له إلا إذا صدقت عليه السيدة السكرتيرة، ولا دخول إليه إلا لمن رضيت عنهم، خاصة إذا كان ضعيف الشخصية.. خاضع لنزواته.. عبد لشهواته.

وهذا النوع موجود في العديد من الأماكن، حيث تفوق شهرة السكرتيرة شهرة الرجل الأول، ولابد أن يتوفر في هذا النموذج مواصفات أخرى منها الجمال والجاذبية وتصفيف الشعر بطرق مختلفة وذوق رفيع في اختيار العطور، وقدرة على اختيار الوقت المناسب للدخول إلى الرجل الأول للتوقيع على طلب بعينه، وطالما قاد هذا النموذج أيضًا الرجل الأول إلى السجن أو التقاعد المبكر أو تفكيك الأسرة وتشريد الأبناء.

تتوارى ظاهرة الرجل الثاني وتختفي كلما كان الرجل الأول متمكنًا من أدواته.. متمتعًا بشخصية قوية.. قادرًا على الإدارة.. يتحكم في أهوائه ونزواته.. مدركًا أن بقاءه في منصبه ليس أبديًا.
basher_hassan@hotmail.com
الجريدة الرسمية