رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (٢٤)


بلغ الحزن العميق بالأب يعقوب (عليه السلام) مداه عندما بلغه خبر ابنه بنيامين، إذ أعاد إليه ذكرى فقدان ابنه يوسف الذي كان يحبه حبا جما، الأمر الذي أدى إلى ذهاب بصره.. وإزاء ذلك، تشاور إخوة يوسف فيما بينهم وقرروا في نهاية الأمر - استجابة لرغبة أبيهم المكلوم - أن يحزموا أمرهم ويسافروا إلى مصر للقاء يوسف، لعلهم يجدوا لديه حلا للمشكلة.. (فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) والضر لغة: هو ما كان من سوء حال أو فقر أو شدة في بدن، والمعنى أنهم شكوا إلى يوسف حالهم والضرر الواقع عليهم نتيجة ما هم فيه من الجدب، في محاولة لاستدرار عطفه.. وزادوا أن قالوا (وجئنا ببضاعة مزجاة) أي لا تساوي دراهمهم في قيمتها الطعام الذي نريده.. وهذا أمر طبيعي، ففي حالات الجدب التي تصيب البلاد، حيث قلة المعروض وزيادة الطلب، ترتفع الأسعار وبالتالي لا يكفي ما معهم من مال لشراء ما يلزمهم من طعام.


لذا، قالوا: نأمل أيها العزيز أن تكرمنا وتحسن إلينا (فأوف لنا الكيل وتصدق علينا)، ولا يخفى عليك أن الله تعالى يثيب أجر المحسنين (أن الله يجزي المتصدقين)، في "صفوة التفاسير"، يقول الصابوني: ولما بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار، أدركته الرأفة فباح لهم بما كان يكتمه من أمره (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون)؟ أي هل تتذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه أيام الطيش والنزق والشباب؟ قال أبو السعود: "وإنما قاله نصحا لهم، وتحريضا على التوبة، وشفقة عليهم"، وهذا من كمال أخلاق النبوة..

حينذاك (قالوا أئنك لأنت يوسف) أي أأنت يوسف حقًا؟ قالوها وهم غير واثقين.. فرد عليهم قائلا (أنا يوسف وهذا أخي) نعم أنا يوسف وهذا أخي الشقيق، وقد أكرمنا الله تعالى بالصمود أمام المحن، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة (قد من الله علينا).. ثم أخبرهم بالأصول الإيمانية التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن وهي التقوى والصبر، أي مخافة الله تعالى والصبر على ما يحل به من ابتلاءات ومصائب (أنه من يتق ويصبر)، فإن من نتيجة ذلك الأجر الجزيل والثواب العظيم من المولى تعالى (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)..

ثم قالوا: (تالله لقد آثرك الله علينا) أي إن الله أكرمك وأعزك، فقد صبرت واحتملت كثيرا، وما زادك هذا إلا إيمانا وتقى وحسن صلة وثقة بالله.. وأما قولهم (وإن كنا لخاطئين) فهو إقرار بالخطا الذي ارتكبوه والذنب الذي فعلوه في حق يوسف.. وإزاء هذا الاعتراف، قال يوسف: (لا تثريب عليكم اليوم) أي لا عتب عليكم، دلالة على الخلق النبيل الذي يتميز به الأنبياء فمهتهم الكبرى هي حث العباد على التوبة إلى الله والرجوع إليه والركون إلى جنبه، لأنه سبحانه غافر الذنب وقابل التوب، رحيم بعباده (يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين)..

ثم قال (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي)، قال الطبري: ذكر أن يوسف لما عرف إخوته بنفسه، سألهم عن أبيهم فقالوا: ذهب بصره من الحزن، فعند ذلك أعطاهم قميصه.. وقوله (يأت بصيرا) أي يعود إليه بصره بمشيئة من الله وفضله، وأنا في انتظاركم جميعا، لعلى أستطيع أن أعوضكم عن أحزانكم (وأتوني بأهلكم أجمعين).. (وللحديث بقية إن شاء الله).

الجريدة الرسمية