رئيس التحرير
عصام كامل

كسوة الكعبة امتياز مصري قديم.. سلاطين الدولة المملوكية خصصوا وقفا لتمويل صناعتها.. الخلفاء الفاطميون وبنو أيوب قاطعوا الحج.. محمد علي أوقف إرسال ثياب حرير أطلس.. والسعودية تنفرد بشرفها

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

قالت الدكتورة نورا عبد المهيمن طاش، مفتشة آثار بالإدارة العامة لمناطق آثار الوجه البحري وسيناء، إنه منذ بناء الكعبة وهي موضع إجلال وتقدير، يؤمها الحجيج منذ ما قبل الإسلام ولم تفقد يومًا هذه المعاني في جميع العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


وتستعرض الدكتورة نورا، لفيتو تاريخ الحج كالتالي:

أول حاج مسلم
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من حج بالمسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عام 9هـ/630م, حيث أوكل إليه الرسول الخروج بالحجيج ومنع الكفار من الاشتراك فيه، وفي العام التالي رأس الرسول الحجيج بنفسه وعرفت هذه الحجة "بحجة الوداع"، ومنذ ذلك الحين اهتم الخلفاء والملوك بالحج، وحرص الخلفاء الثلاثة الأوائل على أداء فريضة الحج، وحج من بعدهم خلفاء بني أمية وبني العباس في العصر العباسي الأول، أما في العصر العباسي الثاني فأثرت ظروف ذاك العصر من ترف وانقسام وثورات في حجب الخلفاء العباسيين عن الحج.

العصر الفاطمي
أما في العصر الفاطمي فلم يحج من الخلفاء الفاطميين أحد إلا أنهم اعتنوا بقافلة الحج المصري، ولم يحج أحد من سلاطين بني أيوب في مصر ولعل سبب ذلك كان انشغالهم بالجهاد ضد الصليبيين.

ولم يحج أحد من السلاطين إلا في عصر الدولة المملوكية، فكان أول من حج منهم السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري عام 667هـ/1268م، وغسل الكعبة بماء الورد ثم كساها، واستمر الحج فيما بعد طوال العصر المملوكي والعثماني باستثناء سنوات قليلة.

أمير الحج
وكان أول من لقب بأمير الحج من هؤلاء الخلفاء والملوك أبو بكر الصديق الذي رأس الحج بنفسه 9هـ، ومنذ ذلك اليوم أصبحت إمارة الحج واجبًا منوطًا بالخلفاء، وبسقوط الخلافة العباسية دأب أقوى أمراء المسلمين كمماليك مصر وسلاطين آل عثمان على إقامة أمير للحج يقود الحجاج من مصر كل عام.

المحمل
واهتم الخلفاء والملوك والسلاطين بمصر منذ أمد بعيد بقافلة الحج، فاعتنت الدولة المملوكية بخروج المحمل كل عام، إذ كانت تنظم له احتفالًا ضخمًا يتم على دورتين في السنة، الأولى في النصف الثاني من شهر رجب وأطلق عليها الدورة الرجبية، وكان الغرض من دوران المحمل في هذا الوقت المبكر إعلام الناس بأن الطريق بين مصر والحجاز آمن، ومن أراد الحج فلا يتأخر.

أما الدورة الثانية فكانت تتم في النصف من شوال وتسمى الدورة الشوالية، وكانت مثل الدورة الأولى إلا أنه كان يرجع بالمحمل من تحت القلعة إلى باب النصر ويخرج إلى الريدانية للسفر ولا يتوجه إلى الفسطاط.

كسوة الكعبة
كما عنى السلاطين والملوك بصناعة الكسوات وإرسالها كل عام إلى الحرمين الشريفين، ففي عهد العزيز بالله الفاطمي 365 هـ/975 م كسيت الكعبة المعظمة بكسوة بيضاء اللون، وفي عهد الحاكم بأمر 386 هـ/996 م كسيت الكعبة بالقباطي البيض، وفي عصر الدولة الفاطمية وصل إلى الكعبة المشرفة كسواها من جهات أخرى غير بغداد والقاهرة، مثل صنعاء ومراكش، ففي عام 455 هـ/1063 م استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي على اليمن وخلع طاعة العباسيين وخطب فيها للخليفة المستنصر بالله الفاطمي 427 هـ/1036 م بمصر، واستطاع دخول مكة في ذلك العام وعامل أهلها أحسن معاملة وكسى الكعبة بثياب بيض.

تقليد سنوي
وعريت الكعبة المشرفة من كسوتها عام 642 هـ/1244 م بسبب ريح شديدة فأراد الملك المنصور صاحب اليمن كسوتها، فقال له منصور بن منعه البغدادي شيخ الحرم: "لا يكون هذا إلا من جهة الديوان"، يعني الخليفة العباسي.

أما في العصر المملوكي فحرص سلاطين المماليك منذ أن سيطروا على الجزيرة العربية على إرسال كسوة الكعبة سنويًا، في إطار حرصهم على الواجهة الدينية لحكمهم، والظهور بمظهر حماة الحرمين الشريفين، وكانت الكسوة تتضمن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام أيضًا لوقوعه بجوار الكعبة، وستر ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلها مصنوعة من الحرير المذهب النفيس.

حرير أطلس
وفي العصر المملوكي أصبحت الكسوة عبارة عن ثياب من حرير أطلس، سوداء حالكة شعار العباسيين ومبطنة بالكتان وتكتب فيها آيات الحج مطرزة بكتابة بيضاء في النسيج ذاته، وأعلاها مكتوب بالتطريز اسم السلطان، ثم تحولت الكتابات إلى اللون الذهبي منذ عصر السلطان الظاهر فرج بن برقوق حتى الآن.

سجل مشرف
وأوضحت الدكتورة نورا عبد المهيمن: لدينا سجل يبين أن الكسوة كانت تصنع في دار الطراز بالإسكندرية وعند مشهد الإمام الحسين بالقاهرة أيضًا وكان لها إدارة خاصة لصنعها تسمى نظارة الكسوة ويشرف عليها ناظر الكسوة".

وأصبحت الكسوة يرسلها سلاطين دولة المماليك، وأول من كساها من ملوك مصر بعد زوال الدولة العباسية الظاهر بيبرس في عام 661 هـ/1262م، فكسا الكعبة وسير القافلة من البر عن طريق سيناء بدلا من صحراء عيذاب، وظل السلاطين من بعده يرسلون الكسوة.

شرف السلاطين
وكان سلاطين المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب أن ينازعهم فيه أحد حتى لو وصل الأمر إلى القتال، وكانت ثمة محاولات لنيل شرف كسوة الكعبة من قبل اليمن وفارس والعراق لكن سلاطين المماليك لم يسمحوا لأحد أن ينازعهم في ذلك، وللمحافظة على هذا الشرف أوقف الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاوون في عام 751هـ، وقفًا خاصًا لكسوة الكعبة الخارجية مرة كل سنة وهذا الوقف كان عبارة عن ضيعة تسمى "بيسوس" وهي الآن عبارة عن ثلاث قرى "أبيسوس, وسندبيس، وأبو الغيث" بمحافظة القليوبية وكان يتحصل من هذا الوقف على 8900 درهم سنويًا، واستمر كذلك حتى أضاف السلطان سليمان القانوني في عهده 7 قرى أخرى حتى تفي بالتزامات كسوة الكعبة المشرفة، واستمر سلاطين دولة المماليك في إرسال الكسوة كل عام بشكل أكثر تنظيمًا حتى آخر سلاطينها طومان باي ومعها الهبات والمعونات لأهل مكة والمدينة في عام 922هـ/1516م.

مغزى سياسي
وهذا الحرص والاهتمام لم يكن ينطوي على مجرد تكريم البيت الحرام فحسب، بل إن هناك مغزى سياسي عميق إلى جانب المغزى الديني، ويستند هذا المغزى السياسي إلى أن سلاطين اعتبروا أن التفكير في كسوة الكعبة تحد لمصر وسلطانها، وهذا يضفي على الكسوة معنى سياسيًا ظاهرًا، فالذي يكسو الكعبة هو الأقوى في نظر المسلمين فاعتبرت الكسوة على هذا النحو مظهرًا من مظاهر السيادة والقوة السياسية.

أهمية كبرى
ومما قد يدلل على ذلك ما فعله السلطان برسباي مع ملك الدولة التيمورية شاه رخ بن تيمورلنك عام 834هـ/1430-1431م، إذ أراد الأخير أن يسمح له السلطان برسباي بكسوة الكعبة فرفض برسباي طلبه بحجة أن امتياز تقديم الكسوة يعود منذ القدم لحكام مصر الذين أقاموا أوقافًا خاصة لهذا الغرض، وطبيعي أن يرفض المماليك إشراك التيموريين في الإشراف على الأماكن المقدسة بسبب الأهمية السياسية التي يعنيها الإشراف على تلك الأماكن.

وينطبق الكلام السابق على السلاطين العثمانيين، فحرصت الدولة العثمانية على إرسال المحمل والكسوة كل عام، وكذلك الاهتمام بقافلة الحج كان ينطوى على المغزى الديني والسياسي.

أما المغزى السياسي فهو يستند إلى أن الدولة العثمانية اعتبرت انفرادها بإعداد قوافل الحجيج الأربع كل عام مظهرًا من مظاهر قوتها السياسية وتأكيدًا لزعامة السلطان العثماني، ومما يدلل على ذلك رفضها في اتفاقية السلام المعقودة مع نادر شاه عام 1159هـ/1746م، الاعتراف بقافلة حج خاصة بالحجاج العجم تنطلق بهم من بلاد فارس إلى الحجاز، لأن العثمانيين وجدوا في ذلك انتقاصًا لسيطرتهم وإشرافهم على الأماكن المقدسة.

وعلى ذلك اهتمت الدولة العثمانية اهتمامًا بالغًا بإعداد قوافل الحجيج والإشراف عليها لا سيما بقافلة الحج المصري، نظرًا لأن العلاقة بين مصر والحجاز كانت تمثل وضعًا منفردًا لما كانت تقوم به مصر من رعاية مالية واقتصادية لسكان الحجاز وأشرافه.

وكانت الدولة العثمانية تشرف على أربع قوافل حج رئيسية، وكانت هذه القوافل من حيث الأهمية العددية هي قافلة الحج الشامي وتضم حجاج بلاد الشام والجزيرة وكردستان وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان وحجاج إسطنبول نفسها، وكان عدد أفرادها يتراوح ما بين 30000 إلى 35000, ثم قافلة الحج المصري وتضم حجيج مصر وشمالي أفريقية، ثم قافلة الحج العراقي وتضم حجاج العراق وفارس، ثم قافلة الحج اليمني وتضم حجيج اليمن والهند وماليزيا وأندونيسيا وغيرها.

وفي عهد محمد علي باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد صدام سياسي مع الوهابية في 1222هـ/1807م، لكن أعادت مصر إرسال الكسوة في 1228هـ، وقد أُسست دار لصناعة الكسوة بشارع "الخرنفش" في حي الجمالية بالقاهرة في عام 1233هـ/1812م، وما زالت هذه الدار قائمة حتى الآن، واستمر العمل بها حتى عام 1962م، إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها.
الجريدة الرسمية