رئيس التحرير
عصام كامل

هل نحن دولة فاشلة؟!


عادة ما تضع الثورات بلدانها على مفترق الطرق.. فلا يصبح أمامها سوى "نهوض بلا سقف" أو "انحدار بلا قاع".. فمصر التي قامت بثورتين كان لأبنائها طموح في النهضة بلا سقف، لكنَّ المتآمرين على خرابها كان لهم طموح آخر وهو "انحدار بلا قاع".. وفى كلتا الحالتين كان الاقتصاد هو بيت القصيد.. فلا نستطيع أن ننسى حركة "العقاب الثورى" التي دشنتها جماعة الإخوان وأنصارها إبان ثورة 30 يونيو، بهدف تضييق سُبُل المعيشة أمام المصريين من خلال افتعال الأزمات الاقتصادية المتكررة التي تأتي بمردود سلبي عنيف على حياة المواطنين والاستقرار بصفة عامة كعقاب لهم أن شاركوا في إسقاط دولة الإخوان.


إن هذه الحركة وغيرها كان هدفها الأول هو وصم الدولة المصرية بالهشاشة.. ربما نجحوا في أول الأمر فجاءت مصر في المرتبة 14 عام 2014م، ولكن ما لبث أن تحسن وضعها خلال عامى 2015م و2016م.. فحصلت مصر على التوالى على المرتبتين 31 و38 عالميًا.. وغيرت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لمصر من سلبية إلى مستقرة.. وجاء التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي ليؤكد ثقته في البرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنته الحكومة الحالية، وأنه قادر على زيادة معدلات التشغيل وخفض معدلات البطالة وتحقيق الاستدامة المالية والاستقرار الاقتصادى.. وكذا خفض معدلات التضخم على المدى المتوسط وتدعيم العدالة الاجتماعية وتحقيق أهداف التنمية البشرية ورفع مستوى معيشة المواطن بشكل حقيقى..

ونظرًا للمخاوف التي كانت ولا تزال تطارد الدولة المصرية بسبب وضعية الهشاشة التي لا تزال "متأخرة" رغم تقدم ترتيبها بشكل عام، حسبما أسفر عنه التقرير السنوى لصندوق السلام العالمى عن الدول الأكثر هشاشة في العالم.. فإننا نحاول من خلال هذا المقال أن نواجه أنفسنا بحقيقة وضعيتنا الهَشّة، وكيف يمكننا أن نتجنبها أو نتخلص منها.

إذا أصبح مفهوم الهشاشة مفهومًا متداولًا بكثرة في مختلف المقاربات بدءًا من أواسط السبعينيات تقريبًا، وتم ربط وضعية الهشاشة ببطالة الشباب بشكل عام.. أو التحول من "عقد العمل غير محدود المدة" إلى "عقد العمل محدود المدة" واعتبر خبراء الاقتصاد أن هذا التحول ينذر بإفقار شعبى حاد، لفئات عريضة من العمال، الأمر الذي جعل الخبراء يطلقون على هذه البلدان التي جاءت في مراتب متأخرة من التقرير "الدولة الفاشلة"!

وتعبر الهَشَاشة في مفهومها العام عن وضعية اقتصادية واجتماعية غير مستقرة، تشير إلى مستقبل غامض الأفق، وغياب كامل لفكرة "الآمان الوظيفى" والشعور بالاستقرار المادى، ومن ثم الاجتماعى، وكذلك تشير إلى عدم قدرة المواطنين على توفير شروط تشريعية تضمن لهم الحياة الكريمة بمكوناتها المختلفة" من عمل مناسب وسكن لائق، وتعليم مجانى، ورعاية صحية مجانية"، وعمومًا فللهشاشة وجهان مترابطان، يستحيل الفصل بينهما هما: "الوجه الاقتصادي" و"الوجه الاجتماعي"!

والدول الهَّشَة حسب تعريف مجلة "فورين بوليسى" الأمريكية هي الدول التي تمثل الزيادة السكانية فيها "كارثة" على الاقتصاد، أو هى تلك التي تفشل في استثمار مواردها البشرية أو لا تملك آلية فعالة لاستثمار البشر.. وربما أيضا هي تلك الدول التي تنتشر فيها معدلات الجريمة بصورة مُخِيَفة، وتغيب عنها ثقافة "التسامح" بين الدولة والشعب، أو بين السكان أنفسهم.. وتتجذر فيها ثقافة "الثأر" والرغبة في الانتقام!

الدولة الفاشلة هي الدولة التي تسمح بهجرة "أدمغتها" إلى الخارج.. أقصد طبعًا هجرة العلماء والمتخصصين، علما بأننا من أكثر الدول التي هاجر منها علمائها إما طلبا لراتب أعلى، أو سعيًا إلى مستوى معيشى وفكرى أفضل!

الدولة الهشة هي الدولة التي تعانى من تراجعٍ سريعٍ في معدلات النمو الاقتصادى أو تتسم عمليات التنمية فيها بأنها غير متوازنة.. وهى الدولة التي تعانى من تدهور سريع في الخدمات والمرافق العامة، وتتفشى فيها "الفوضى" بكل صورها.. وهى الدول التي تُنتَهك فيها "حقوق الإنسان" أو هي الدولة التي تعجز فيها الحكومات والتشريعات عن صيانة حقوق الإنسان التي كفلتها له الاتفاقيات والدساتير الدولية.

الدولة الفاشلة حسب معايير "فورين بوليسى" هي الدولة التي سمحت للفساد بأن يعشش في مؤسساتها؛ ليصبح بالنسبة للعاملين فيها والمتعاملين معها "ثقافة عملٍ" أو منهجًا للحياة.. وهى الدولة التي تصبح فيها الأجهزة الأمنية والقضاء وكبار رجال الأعمال بمثابة دولة داخل الدولة، وحينما يسكنها مواطنون يتمتعون بـ"روح" القانون الناعمة، وأخرون يطبق عليهم القانون بلا هوادة أو رحمة!

وإذا كان ما سبق هو تشخيص لظاهرة الهشاشة التي تنتاب كثيرًا من دول الجنوب، ومصر واحدة من الدول التي تقع ضمن الربع الأشد هشاشة في العالم.. فإن مسئولية تنجب الفشل والوقوع في براثن الهشاشة ليس مسئولية الحكومة وحدها.. فلن تتحرر مصر من الهشاشة إلا إذا كان لدينا نظام انتخابي نزيه يسمح بتداول السلطة بشكل محترم.. فلا أزال أستبعد أن تتمكن جهة في بلادنا العربية من السلطة ثم تنظم انتخابات لا تضمن نتائجها! ولن تحرر بلادنا من دواعي الهشاشة إلا إذا أفلح الشعب في تحويل السياسة من تنازع إلى تدافع، ومن تشريف ومَغنَم إلى خدمة عامة، ومسئولية كريهة يهابها الجميع!

لن تنجو بلادنا من الفشل إلا إذا تخلصت من "النُخَب السياسية" الهزيلة والانتهازية في نفس الوقت، والتي تستبيح كل شيء من أجل الوصول للسلطة أو احتكارها بلا ضوابط ولا محرمات.. فشتان بين قادة الحركة الصهيونية الذين خططوا لتحصين دولة الاحتلال قبل قيامها، وبين سياسيين عرب يتنازعون السلطة قبل بناء الدولة والانتصار على أزماتها!

لن تنجو مصر من الهشاشة إلا إذا أوقفت نزيف "هجرة الأدمغة" التي جَرَّفَت العقل المصرى من كل ما هو ذى قيمة، ووجدت طيورنا المهاجرة مكانًا لها للتغريد في الداخل.. فلن نصبح "دولة صلبة" إلا إذا شعر المصريون بأنهم سواء أمام القانون.. ولن تصبح مصر "دولة قوية" إلا إذا أديرت مؤسساتها وقضاياها وأزماتها بـ"شفافية" مطلقة.. وتم اختيار القيادات دون "محسوبية" ووفق معايير العدالة وتكافؤ الفرص.. فالدول التي تُدار بالترقيع والمسكنّات عادة ما تتدحرج نحو الاستبداد والتبعية والفساد!

وأخيرًا لن تتحرر مصر من الهشاشة ولن تنجو من الفشل إلا إذا فَكَرَ كل مواطن وتَصَرف على أنه مواطن حُرٌ كريمٌ، شريكٌ في الوطن، وليس كأجير أو مستأجر أو ضيف أو متفرج!
الجريدة الرسمية