رئيس التحرير
عصام كامل

مصطفى عنز يكتب: تأقلم!

فيتو

"تأقلم كده.. لازم تعرف إني هموت في يوم من الأيام.. مش هعيشلك في قمقم" بهذه الكلمات المؤثرة كانت جدتي تنعى لي نفسها كل يوم، وتمهد لي طريقًا مظلمًا حتى لا أتعثر في سواده.


ربما لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن تفارقني، حيث إنها كنت جزءًا كبيرًا من يومي ومن حياتي كلها، فلا تكتمل سعادتي بدون رؤيتها، وتناول وجبة الإفطار معها كل صباح، في بيتها الدافئ، والاستماع إلى حديثها الفاتح للشهية.

ولاسيما فقد تعودت عليها منذ أن كنت طفلًا صغيرًا، وهي من تولت تربيتي لتخفيف المعاناة عن والدتي، فكانت تسهر الليالي تحملني حتى أغرق في نوم عميق خال من التفكير، وكانت تحاول بشتى الطرق أن تسعدني، فلا أتذكر أنها أغضبتني ولو مرة واحدة.

تمكنت جدتي من قلبي الصغير حتى امتلكته بمفردها، فلم يكن في قلبي مكان لأحد سواها، ولم أعرف لماذا؟ ولكني كنت أعلم أنني الطفل المدلل لديها، الذي كانت تلبي له جميع مطالبه في حدود الأدب والأخلاق.

علمتني جدتي احترام الكبير، والعطف على الصغير، علمتني حب الآخرين، والشجاعة، وقول الحق، وحذرتني من الظلم، والكذب، وقول الزور، والغيبة، والنميمة، بينما عودتني على التصدق وزيارة المرضى، وشجعتني على إطعام المساكين، فكانت تحملني الطعام حسب الجدول اليومي للأشخاص الذين لهم الحق في رزق الله، حتى وإن غضبت وتعنت على الذهاب كانت ترفع من روحي المعنوية حتى أذهب بتلك المقولة.. "الملايكة هتزفك طول الطريق".

لم تكن تتحمل غيابي أو سفري في أي مكان، حتى وإن طال غيابي يومين فقط، فلم تتعود على ذلك، وأنا أيضًا لم أتعود على فراقها، أو عدم رؤيتها، كانت حياة بمعنى الكلمة، وربة منزل مدبرة.

كانت صابرة، محتسبة، عطاءة، صامتة، تتمتع بالطيبة والحنان الذي يجذب البشر نحوها، تحتاج إلى صفحات كثيرة لسرد محاسنها ولم تكفِ، فما وجدت في طيبتها أحد، ولا في كرمها، ولا في عفتها.

تلك هي جدتي التي توفي زوجها وهي في ربيع عمرها، وترك لها "أورطة عيال"، لتتولي تربيتهم، وتجاهد من أجلهم، ليكونوا أبناء صالحين، يستفيد منهم المجتمع، وترفض الزواج بالرغم من كثرة عدد المتقدمين لزواجها، وتعيش على أمل واحد وهو أن تكون ممن يتسابقون مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" في دخول الجنة بتربيتها للأيتام.

عانت كثيرًا في حياتها، وصبرت على الأمراض الكثيرة التي ابتليت بها، وكانت في رضا وثبات، وأمل ورجاء، لما قدر وكتب عليها ليختم الله لها بخاتمة السعداء وترحل أثناء صلاة الجمعة وملائكة الرحمن منتشرة في أرجاء الدنيا لتكون شاهدة على تلك الروح الطاهرة التي خرجت من جدتي وهي تردد "آمنت بالله ورسوله".

ولقد قرأت تلك الأحداث التي أعيشها في نومي ولكن كنت أحاول الهروب بمقولة واحدة "دي حلم"، حيث نعلم جيدًا أن معظم الأحلام لا تحقق، ولكن تحقق لي سوءها.

مازلت أحاول أن أتأقلم.. ولكن صوتها الهادي يطاردني دائمًا.. وحنانها الزائد يملأ قلبي.. أريد أن أتأقلم كما كانت تريد.. أتمنى أن أحقق لها أمنايها في نفسي.

هذه العجالة السريعة لا تعدو أن تكون عنوانًا مجملًا عن كتاب كبير يسرد الكثير والكثير عن جدتي التي أفتخر بها في كل مكان.. ولا أبلغ بذلك حقها.. ولكن للحديث بقايا كثيرة.
الجريدة الرسمية