رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

محمد حسين هيكل يكتب: شهوة الحياة

فيتو

في مجلة "السفور" عام 1915 كتب السياسي الأديب الدكتور محمد حسين هيكل (ولد في 20 أغسطس 1888، ورحل عام 1956) مقالا قال فيه:

قاتل الله "الحاجة".. تلك التي تنزل بالرجل من كبريائه وعظمته إلى مواقف المجرمين والسفلة، وبالمرأة من عفافها وطهرها إلى البغاء والفجر، وهى التي تدفع السارق إلى السرقة والكاذب إلى الكذب والنفاق.


وما كان أغنى أولئك جميعًا عن مواضع الضعة التي يندركون إليها لولا "الحاجة"، لتكن حاجتهم مادية أو غير مادية.. فما دامت موجودة وتدفعهم إلى سد نقص طبيعى فيهم لا تمكنهم ملكاتهم من الوصول لسده فهي دافعة بلا شك بهم إلى أسفل الدرك.

عرفنا زمنًا ما رجلا على جانب من الفطنة وحسن الذوق لكن أطماعه في الحياة كانت تفوق فطنته مرات.. بدأ حياته بجد وأمانة لفترة قصيرة لكن عاملا في نفسه كان يحركها دائما إلى العدول عن طريق الحق الذي اتبعه.

ذلك العامل هو حاجته للعظمة، وتتنازعه الحياة فيرى أقرانه تقدموا عليه فيفكر في الحط من أقدارهم وانتقاصهم عند رؤسائه ورؤسائهم، أخيرا لم بر بدا من أن يترك لنفسه العنان يتخير الطرق أن فاضلة أو مرذولة ليحقق بعض ما يصبو إليه فجعل يتملق الرؤساء وينافق الكبراء ويكذب على الناس حتى وصل إلى وسيلة إكمال فطنته وحسن ذوقه بالنصب والنفاق والكذب فأغرق في التحايل والنصب.

قابلت صاحبى هذا مهموما كثير الهواجس مضطرب الفكر ظاهر القلق وسألته عن همه فعلمت أن هذا هو أسبوع الترقيات وأنه بلغه أن واشيًا وشى به إلى رجل صاحب سلطة، وخشى من تأثير ذلك فيه.. قلت له مادمت واثقا من عملك وإخلاصك فيه فستكسب بإذن الله.

قال لى: أتظن أن الترقى بالعمل والجد ؟ وتركنى وانصرف قائلا: أريد مقابلة فلان باشا، وبعد أيام نشر اسمه مع الترقيات فقد أصبح ذا شأن كبير وليس مستحيلا أن يصل إلى أبعد مدى.. إذ أنه ليس مستحيلا أن يكون وزيرًا.

كان صاحبي في السابق لا يقابلنا إلا ضاحكًا بشوشًا متواضعًا، وكان يرى في الحياة رمزًا يسعى للوصول إليه.. أما اليوم فلا يقابلنى إلا نادرا أو بالصدفة وأصبح يذم ويلعن أصدقاءه ولم يبق عنده من معنى الحياة إلا الطاعة لكل قوة تحكمه طاعة العبد للسيد.

كل ذلك لأن نفسه اشتهت العظمة ولم ترض التنازل عنها فرضي بكل ما يوصل إليها، رأى أن الغاية تبرر الواسطة ومادام لك عند الكلب حاجة قل له ياسيدى.

أيهما أبلغ عذرًا المرأة التي تحتاج البهرجة ولا تجد إليها سبيلا إلا بيع عرضها وجسمها فتصبح بغيا.. أو الرجل الذي يحتاج العظمة ولا يقدر عليها فيبيع نفسه وروحه فيصبح كلاهما صاحب حاجة.. وقاتل الله الحاجة.
Advertisements
الجريدة الرسمية