رئيس التحرير
عصام كامل

رفعت السعيد.. وداعا حكيم اليسار المصري!


سألتني الإعلامية الشهيرة: ما أهم ما يميز الدكتور رفعت السعيد؟ قلت على الفور: قدرته الفائقة على ترتيب الأولويات!، يبدو الوصف سهلا للبعض بينما عدم القدرة على ترتيب الأولويات هي آفة العمل السياسي كله في مصر.. وهو ما ساهم -ربما دائما- في أن يتغلب التشنج على المنطق والحنجوري على معطيات الواقع ويتحدث حال الأحزاب والتيارات السياسية في مصر على نتائج هذه الممارسات بأوضاعهم السابقة والحالية!


مارس رفعت السعيد العمل السري في الحركة اليسارية المصرية قبل وبعد ثورة يوليو وفي ظروف فرض فيها عمل التنظيمات السرية على المشهد.. وكانت التحولات الاجتماعية لصالح جموع الفلاحين والعمال والكادحين في الستينيات مع استقلال وطني ونهضة صناعية إلى وقوف قطاعات واسعة من اليسار مع الدولة المصرية بالرغم من التضييق على نشاطها وحصاره.. بينما ينطلق السعيد في مواجهة شرسة مع السادات في السبعينيات بعد التحول للتعدد الحزبي خصوصا بعد قوانين الانفتاح والعلاقات الخاصة مع أمريكا وظهور صور متعددة من الفساد تمثلت في احتكارات وتجاوز للقانون.

أدى ذلك إلى ضربات أمنية قاسية على حزب التجمع حولته من حزب كبير يضم تحالفا واسعا لليساريين والقوميين إلى حزب للكوادر الثورية وغير جماهيري وتركته رموز لامعة وكبيرة مثل الدكتور يحيى الجمل وكثيرون وصادرت الأجهزة الأمنة صحيفة الأهالي مرات ومرات حتى قيل إنها تصادر أكثر مما تصدر!

في عصر مبارك حدث تحول دولي يخص الأحزاب اليسارية أدى إلى تراجعها وتفككت دول الكتلة الشرقية الداعم الأساسي للأحزاب اليسارية.. كان بالإمكان على الدكتور رفعت السعيد وقد عارض السادات بشراسة وجرأة كبيرة أن يستكمل خطه لكنه رأي أن الظرف الدولي غير مناسب والخطاب مع الجماهير إن استمرت الحملات الأمنية والإعلامية ضده كفيلة بإنهاء وجود الحزب واليسار كله ووجد السعيد المخرج بذكاء بالغ يبدو موضوعيا ومقنعا للكثرين وهو أن الخطر الأكبر على مصر ليس في الحزب الحاكم بل الحزب الحاكم بسياساته يشكل خطرا فعلا لكن يسبقه خطر أكبر هو التطرف بجماعاته وتنظيماته الإرهابية.. وكان يرى أنه لا يوجد تيار إسلام سياسي معتدل على الإطلاق.. كله إرهابي وأولهم جماعة الإخوان.. ورأي أيضا أن مواجهة الجميع غير ممكنة وأنه لا بد من تأجيل الصراع مع السلطة لحساب الصراع مع الإرهاب والتطرف.. وقد كان !

الكثيرون اعتبروا ذلك انتهازية وقبول لإغراءات السلطة.. واتهموه بالعمالة للأمن وعدد من الاتهامات السخيفة التي اعتاد أفراد ومجموعات اليسار اتهام خصومهم بها.. وأغلب هؤلاء تحالف مع الإخوان قبل وعند وصولهم للسلطة تحت نفس الشعارات التي رفعها قبلهم بعشرين عاما الدكتور السعيد، وسبّوه وهاجموه بسببها.. كان هو يري خطورة وصولهم للسلطة.. في حين رفعوا هم شعار "خوفا من عودة الفلول للسلطة"! وربما سيحكم التاريخ بنفسه على منطق كل منهم!

في وقت كان الرصاص ينطلق ضد عدد من وزراء الداخلية السابقين والكاتب الكبير مكرم محمد أحمد ونجوا جميعا.. ولكن راح الدكتور فرج فودة ضحيته.. كان الدكتور رفعت السعيد لا يتوقف عن قصف الإرهاب والارهابيين والتطرف والمتطرفين بشكل شبه يومي.. لم يخف ولم يتراجع ولم يتردد.. ومنذ اليوم الأول ليناير 2011 ولم يتخلف الدكتور رفعت السعيد عن دعم مؤسسات الدولة الوطنية المصرية وفي مقدمتها الجيش.. ولم يكن الرجل ـ عقلا ولا منطقا ـ وقد تجاوز الثمانين يتطلع لمنصب أو موقع.. فهو بحكم السن لم يعد قادرا حتى على إدارة حزبه، الذي بناه ووضع له دعائم الاستمرار بديمقراطية داخلية أنجته من الانشقاق كبقية الأحزاب.

وبالتالي فليس ممكنا توليه منصبا رسميا.. إلا أنه آثر أن يختتم حياته -كالأبنودي وأحمد فؤاد نجم والكثيرين- منحازا لوطنه ومؤسسات بلده ولشعبه وخصوصا الفقراء والكادحين منهم ولذلك رفض أو حتى تحفظ على الإجراءات الاقتصادية الأخيرة وقدم البدائل لها.. لكن من على أرضية الدولة المصرية وليس من معسكر العداء لها.. ولذلك نعته رئاسة الجمهورية بعد مرور ساعة على وفاته وربما كان الحزن الشعبي عليه دليلا على إدراك المصريين لذلك واحترامهم له.. وهو احترام شاء من شاء وأبى من أبى لليسار المصري أيضا الذي تم تشويهه -بسبب تصرفات بعض المنتمين إليه- بشكل غير مسبوق وخصوصا من إعلام عدد من رجال الأعمال، وأثر ذلك على سمعة اليسار كله!

رحم الله الدكتور رفعت السعيد.. الذي شكل ظاهرة نادرة وفريدة تماهت طوال تاريخها مع الظروف السياسية وتفردت بالجمع بين الثورية والواقعية في نموذج ـ بتفاصيله وشكله ـ قد لا يتكرر أبدا!
الجريدة الرسمية