رئيس التحرير
عصام كامل

عندما قهرنا اليأس


كل سفينة لا تجيئها ريحها منها فهي فقيرة.. كل بقاء يكون بعده فناء لا يعول عليه، وكل فناء لا يعطى بقاء لا يعول عليه.. هكذا كان يردد "ابن عربى"، وكان الشيخ عبد الله التسترى يقول: "يكفينى من الحب أني لكل من تحب محب".. بينما كان الشيخ أبوالحسن النوري يقول: "إذا أحببت من قبل السبب فحبك سبب بلا سبب".


كان موضوع الصالون الذي دعيت إليه هو ذلك العمل المصرى البطولى والملحمة الوطنية العظيمة في إعلان الحرب على فيروس سي المدمر، غير أن المقدمة التي أطلقها الدكتور حسن راتب ليضع الدكتور شيرين حسن حلمى أمام جمهور الصالون، ضلت طريقها إلى قضية أخرى، تجد هواها في نفوس الناس هذه الأيام، وهي التصوف باعتباره ملاذا إنسانيا راقيا، لنشر الحب وإعلان الحرب على الكراهية والحقد والغل.

أمسك الدكتور شيرين حلمى بزمام الأمر، وألقي محاضرة في غذاء الروح عبر بها مسافات إلى نفوس الحاضرين فأنساهم ما جاءوا من أجل الاستماع إليه، غير أنه لم يتجاهل موضوع صالون قناة المحور، فعاد ومضي في عجالة، وسرى بنا في جولة من جولات الإرادة الإنسانية، لنكتشف وبشكل غير مباشر أن نجاح مصر برجالها وعلمائها وصناعاتها لمواجهة شبح فيروس سي ليس إلا واحدة من حالات الحب الصوفى.

عبر الدكتور عادل العدوى وزير الصحة السابق، عن الأمر بكلمات بسيطة عندما وضعته المسئولية أمام تحد كبير أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي لمواجهة الموت المحدق، بأكثر من تسعة ملايين مصرى على الأقل.. كان التحدى كبيرا والمسئولية أكبر، فأقل سعر لعلاج مريض واحد يصل إلى قرابة المليون جنيه، والشركات العالمية تتحكم في كل شيء، ومن لا يملك العلم والإرادة فليس أمامه سوى انتظار الموت القادم لا محالة.

القضية كما طرحها الدكتور عادل العدوى هي حالة من الاستحالة، وكما يقولون “سأل الممكن المستحيل.. أين تقيم؟ قال في أحلام العاجزين".. ولم يكن المصري عاجزا أمام هذا التحدى، بل أعلن العصيان على الموت والجهل والاستسلام.. هكذا كانت إرادتنا متمثلة في أشخاص من لحم ودم.. في مصريين يأكلون مما نأكل، ويشربون من نفس النيل.. لديهم مشكلات وهموم، ولكن كانت لديهم قبل هذا وذاك إرادة.

وكان اللقاء بين اثنين.. وزير تحمل المسئولية وأعلن التحدي، قبولا بتكليف الرئيس، وإيمانا منه بكراهية العجز والاستسلام، ومواطن مصرى أغناه الله بعلم وفير ،ووضع السكينة في قلبه، فآمن بأن المال وسيلة لا غاية، فقررا خوض غمار المعركة.. تناقشا كثيرا.. جابا الدنيا شمالا وجنوبا.. شرقا وغربا، وقررا ألا تكون مصر ساحة للموت، فكان القرار باعتلاء منصة العلم، فكان لهما ما أرادا وحمل كل منهما سيفه وقلبه، من أجل المصريين والإنسانية كلها.

كان طابور الموت المكون من تسعة ملايين مصري وأسرهم وذويهم، ينتظرون بفارغ الصبر أملا يأتى إليهم محمولا على أعناق مصريين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. أمهات ثكالى ينتظرن لحظة القدر المحتوم.. شباب في عمر الزهور عاجزون أمام الخطر الداهم.. أطفال ينتزعهم الموت انتزاعا من بين أحضان فقدت الأمل.. شيوخ يكابدون الحسرة في ريف مصر وقراها ونجوعها.. شوارعها وحواريها.. باختصار كانت رائحة الموت تهزم عطر الأمل في اليوم مئات المرات.

كان الحل مذهلا ومدهشا وعجيبا، عندما قال الدكتور العدوى إنه يريد الدواء للمصريين.. كل المصريين وبأقل الأسعار، ودون أرباح للشركات.. وكان رد الدكتور شيرين مزلزلا لشبح اليأس، فقرر أن يكون الدواء مصريا خالصا وببضع جنيهات، وبدأت رحلة الإرادة المصرية من داخل شركة فاركو العريقة.. رحلة الحب التي تحدث عنها أبو الحسن النوري.

كانت اللحظات تمضى على أسر ضحايا الغول المتوحش وكأنها سنوات، ووصلت أول عبوة من الدواء يحملها الدكتور شيرين إلى وزارة الصحة.. يا له من يوم خالد في تاريخ الحب والعطاء الإنسانى.. يقف الوزير ممسكا بأطراف الأمل، معلنا نجاح مصر والمصريين في إنتاج دواء في متناول الجميع.. كانت علبة الدواء التي لوح بها الوزير أمام كاميرات العالم إيذانا بولادة عملاق مصرى يؤكد من جديد أننا- بفضل الله- قادرون على الإسهام الحضارى الإنسانى.

في عام كامل استطاعت كل دول العالم أن تعالج ٢٥٠ ألف مريض فقط، في حين نجحت مصر في علاج مليون مهدد بالموت.. نقلتهم من خانة انتظار الرحيل إلى خانة الأمل.. هكذا أقمنا هرما رابعا للعالم كله.. حطمنا خط الوحش الكاسر.. ابتنينا سدا عاليا من النور.. تمكنا من هزيمة الجهل. وقبل كل شيء أدركنا أن الحب بلا سبب هو السبب...
الجريدة الرسمية