رئيس التحرير
عصام كامل

تأميم السياسة


كان تصرف اللواء كامل الوزير مع سكان الوراق قمة الأداء السياسي، ثم كلام الرئيس السيسي مع السكان مباشرة هو العودة الحميدة للدولة السياسية، التي كانت ولا تزال غائبة عن المشهد وملئًا للفراغ السياسي، ومن المعلوم بالضرورة أن كل فراغ تتركه الدولة يسارع المغامرون والمتربصون باحتلاله، وطوال عمر الدولة المصرية منذ يوليو ١٩٥٢ كانت هناك جماهير مؤيدة وتشكل الأغلبية ولكن كان هناك أيضًا معارضة إما بشكل شرعي أو تحت الأرض، ولكن في كل الأحوال كان هناك سياسيون محترفون قادرون على إدارة حوار مع وضد السلطة، وكانوا قادرين على ضبط الأداء السياسي بما يسمح بالتعايش حتى ولو في الحدود الدنيا..


كانت شعبية السلطة تتأرجح وفقًا للأداء السياسي بين المؤيدين والمعارضين وبغض النظر عن المناورات والخداع فقد كان هناك مضمون عاقل يضبط حد الأمان وهيبة الدولة ويسمح للكتلة الحرجة بالتنفيس الآمن المحسوب، حتى جاء وقت كاد الأداء السياسي أن يختفي بل لم يعد هناك محترفون في التواصل مع الناس باستثناء الرئيس السيسي، وذلك لغياب الكوادر في البرلمان والحكومة، والموت الإكلينيكي للأحزاب وتجميد النشاط الطلابي في الجامعات، والتي كانت من أكبر مصانع إنتاج الكوادر السياسية، وكانت تسمح بقدر كبير من احتواء الشباب ومنحهم الفرصة للتعبير عن جيلهم وتمردهم، ثم كانت القيود المتعمدة على نشاطات المجتمع المدني وخنقه حتى ظن الناس أن هناك حالة ذكية لتأميم الحياة السياسية، والعودة لنقطة الصفر لدولة الخوف والحزب الواحد والرأي الواحد..

وكان الظن أن أهم إيجابيات ٢٥ يناير أنها منحت الأمة حصانة بعدم العودة للماضي، وأن الأسباب التي دعت الناس للنزول للشوارع لن تتكرر وفاء لدماء الشهداء والثمن الغالي الذي دفعته مصر لعبور فوضى تلك الأيام، ثم كان أن أعادت الأمة تأكيد مطلبها في التحرر من الاستبداد وحكم الفرد والجماعة في ٣٠ يونيو، وتكون ما يسمى ائتلاف ٣٠ يونيو من كل أطياف الأمة، مما أعطى فرصة تاريخية لخلق حزب حقيقي للأغلبية، وإيجاد إطار سياسي لتيارين أحدهما تقليدي وله تاريخ مرتبط بأنظمة ما قبل يناير والآخر ديمقراطي مرتبط بيناير ويونيو، وربما كانت لحظة تاريخية لم ينتبه لها للأسف كثيرون وضاعت فرصة ملهمة في تاريخ مصر كانت في أشد الحاجة إليها لتصحيح أخطاء وتشوهات الحياة السياسية منذ يوليو ١٩٥٢..

وكان ما جرى عكس منطق الأمور واختفت السياسة والسياسيون بفعل فاعل ظنا أن في ذلك الأمان في اللحظة الراهنة وهي رؤية أمنية قاصرة لم تتحسب للمستقبل سواء القريب أو البعيد مما أدى لتراجع المؤيدين الطبيعيين الذين اعتادت السلطة عليهم عبر تاريخها، ثم كان أن ظهرت بدائل من المسخ سواء في الاعلام أو السلطة، وبدا أن الإدارة الجديدة تسعي لخلق بدائل من صناعتها مثال كتلة دعم مصر أو القنوات الفضائية الخاصة أو الشخصيات التي وضعتها في قمة الهيئات البرلمانية والإعلامية أو خلق مجالس عليا، كأنها حكومة ظل والاستعانة ببعض اللجان الإلكترونية للرد على جنرالات فيس بوك، وأصبح المدعوون دوما في اللقاءات والاجتماعات الرسمية هم نفس الوجوه وضاقت دائرة الحوار مع تأخير إجراء الانتخابات المحلية مما خلق حالة موازية للحوار من قبل دوائر المستبعدون على وسائل التواصل الاجتماعي أو على المقاهي، وأصبح التناقض ملحوظا بين الخطاب الرسمي والخطاب الشعبي وهي حالة خطر تؤدي في النهاية لزيادة مساحة الرفض وخلق أنماط بديلة تحت الأرض، كما حدث في العشوائيات أو كما حدث مع الإخوان حينما استولوا على النقابات، أو مع شركات توظيف الأموال أو مع السوق السوداء للدولار أو مع الدروس الخصوصية عندما لم تستجب السلطة لتطور الواقع، فخلق الناس البدائل الخاصة بهم بعيدًا عن الدولة، وكلها أمور تحتاج لعودة السياسة للتواصل مع الناس حتى لا تتطور تجليات الرفض للدولة بخلق الوطن البديل لنحقق بغباء التقسيم الذي عجزت عنه مؤامرات الخارج..
الجريدة الرسمية