رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (٢٠)


عادة تكون التجربة القاسية التي يمر بها الإنسان في فترة من حياته لها تأثيرها وحساسيتها في نفسه وفى تفكيره وطريقة تناوله للأمور، خاصة إذا كانت هذه التجربة مرتبطة بفقدان ولد عزيز وأثير لديه.. لذا رفض الأب يعقوب (عليه السلام) أن يستجيب لأولاده العشرة (إخوة يوسف) بإرسال ابنه بنيامين معهم حتى يعطوه العهد والموثق أنهم سوف يحافظون عليه، وأن يكونوا على يقظة وانتباه مما يجري حولهم.. فهم سوف يقطعون مسافات طويلة في الصحراء القاحلة قبل الوصول إلى مصر، وقد يعترضهم قطاع طرق فيعتدون عليهم أو يقومون بخطف أخيهم أو يستولون على ما معهم من مال أو متاع..


(فلما أتوه موثقهم) أي فلما أقسموا له أنهم سوف يكونون عند حسن ظنه (قال الله على ما نقول وكيل)، أي أن الله شهيد ورقيب على ذلك.. وأوصاهم فقال: (يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) أي نصحهم بألا يدخلوا مصر من باب واحد، قال المفسرون: خاف عليهم من عيون الحاسدين إن دخلوا مجتمعين، فقد كانوا أهل جمال وقوة وفتوة وهيبة، فضلا عن عددهم.. وأرى - والله تعالى أعلم - أنه خاف عليهم من رجال السلطة الذين يرصدون القادمين الغرباء عند مداخل البلاد، فلربما أثاروا انتباههم أو التبس عليهم أمرهم، فيقبضون عليهم أو على بعضهم لمساءلتهم..

ثم قال: (وما أغنى عنكم من الله من شيء) أي - مع ذلك - فأنا لا أدفع عنكم بنصحى هذا شيئا مما قدره الله وقضاه، فإن الحذر لا يمنع من قدر (إن الحكم إلا لله) أي ما الحكم إلا لله جل وعلا وحده لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء، وليس لى إلا أن آخذ بالأسباب ثم أتوكل على خالقى (عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)، أي وعليه فليعتمد أهل الإيمان، وليفوضوا أمورهم إليه سبحانه.. (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) أي من الأبواب المتفرقة بناء على وصية أبيهم لهم (ما كان يغنى عنهم من الله من شيء)، أي ما كان دخولهم متفرقين ليدفع عنهم شيئا قضى الله تعالى به (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) أي إلا خشية من تعرضهم لأى نوع من الأذى، شفقة منه على بنيه (وإنه لذو علم لما علمناه) أي وأن يعقوب لذو علم واسع من لدنا أوحينا به إليه (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي لا يعلمون ما خص الله به أنبياءه من العلوم والمعارف التي تنفعهم في الدنيا والآخرة..

(ولما دخلوا على يوسف) أي وعندما دخل إخوة يوسف عليه (آوى إليه أخاه) أي ضم إليه شقيقه بنيامين وهمس في أذنه قائلا (إنى أنا أخوك) أي أنا أخوك يوسف (فلا تبتئس بما كانوا يعملون) أي لا تحزن بما فعل إخوتنا معنا فيما مضى، فقد أنعم الله علينا وأحسن إلينا وعوضنا خيرا عما حدث لنا، وها هو سبحانه يمن علينا ويجمع بيننا بعد هذا الفراق الطويل.. قال بعض المفسرين: لما دخل إخوة يوسف عليه أكرمهم وأحسن وفادتهم، ثم انزل كل اثنين في بيت، وبقي بنيامين وحيدا، فقال: هذا لا ثان له فيكون معى، فبات يوسف يضمه إليه ويعانقه، وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تحزن بما صنعوا، ثم أعلمه أنه سيحتال لإبقائه عنده وأمره أن يكتم الخبر.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية