رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

الطغاة في دراما أسامة أنور عكاشة.. صقر الحلواني


فاقدو الشعور بالأمان في حاضرهم والأمل في مستقبلهم هم الأجدر بمتابعة قناة «ماسبيرو زمان» التي أطلقها التليفزيون المصري بعد أن سحبت القنوات الخاصة والعربية بساط الريادة من تحت قدميه، ليصاب بداء الحنين إلى الماضي، ويكتشف فجأة أن لديه تراثا ضخما يمكن أن يزاحم به ولو مرحليا في سباق جذب المشاهدين.


وبعيد عن «نوستالجيا» التليفزيون المصري فإن القناة أعادت تقديم أعمال مميزة تستحق المشاهدة بالفعل، كان أبرزها مسلسلي «عصفور النار» الذي انتهت حلقاته منذ أيام قليلة، و«الراية البيضا» الذي لا تزال أحداثه مستمرة حتى كتابة هذه الكلمات، وهما للمؤلف العبقري أسامة أنور عكاشة.

ومن أول وهلة سيلحظ المشاهد أن الخط الرئيسي للمسلسلين هو مقاومة المضطهدين لظلم الطغاة، ففي «عصفور النار» تقاوم حورية طغيان عمها «صقر الحلواني» الذي لم تكن تشعر به إلا بعد الظهور المفاجئ لشقيقها «الحسيني» يوم زفافها.

أما في «الراية البيضا» فيعود السفير مفيد أبو الغار إلى مصر بعد رحلة طويلة في العمل الدبلوماسي ممنيًا نفسه بتقاعد هادئ في القصر الذي ورثه عن آبائه وأجداده في الإسكندرية، لتظهر في الصورة «المعلمة فضة المعداوي» تاجرة السمك التي تسعى للاستيلاء على القصر بكل الطرق والحيل وتتلاعب بالقانون رغم جهلها، ويتحول رفض أبو الغار لمحاولات فضة إلى كارثة تحرق كل من يقترب منه.

وينتهي المسلسل بمشهد عبقري بصور لودر ضخم يصدر صوتا مرتفعا وكأنه كائن أسطوري يسعى للانقضاض على فريسته «القصر»، بينما لا يملك الرافضون لبيع القيم إلا الجلوس في طريقه، بينما الوحش مستمرا في زحفه.

ويبدو جليا للمتابع أن أسامة أنور عكاشة قدم في العملين نموذجين مختلفين من الطغيان اللذين يدمران المجتمع ففي «عصفور النار» يسعى حاكم البلدة إلى استعباد الشعب عن طريق السيطرة الاقتصادية، رافعا شعار «الأرض والعرض» مهددا بالطرد خارج القرية لكل من يفرط في ذرة تراب من ميراث الأجداد.

وفجاة يظهر «الحسيني» ابن شقيق صقر الحلواني الذي كان يعيش مع أمه بعيدا عن القرية ويطالب بحقه في ميراث أبيه الذي استولى العمدة عليه، وتتضامن مع شقيقته حورية التي لا تنادي الطاغية إلا بـ«أبا صقر»، والذي بدوره يرفض وجود القادم من المجهول لانتزاع حقه، ويحاول التشكيك في صحة نسبه إلى أخيه.

ومع توالي الأحداث نكتشف أن الطاغية حامي الأرض والعرض هو أول من باع أرضه، ولما خاف من الفضيحة قتل المشتري، ثم اغتال شقيقه العمدة «صادق» بطلق ناري «طائش»، ليصل هو إلى العمدية ويمارس مهامه كـ«مستبد حنون»!!

وشخصية الطاغية «صقر» كتبها «عكاشة» باحترافية كبار الأدباء، فالعمدة رغم طغيانه، يعامل ابنة شقيقه بحنان حقيقي، حتى أنه في ذروة مواجهته مع حورية التي تحولت إلى قائدة الثورة يتمنى بصدق غريب متناقض مع شخصيته أن تعود إلى حضنه هي ونجله مروان، الذي كان حياديا حتى احترقت أمه في نار أشعلها شيخ الغفر – مسئول الأمن الأول بالبلد – في بيوت القرية بأمر من العمدة في محاولة أخيرة لوقف طوفان الثورة.

كما أن العمدة يطبق قوانينه المجحفة على الجميع بلا تمييز حتى نجله مروان الذي يمنعه من استكمال تعليمه الجامعي، ليرعى الأرض، مثل باقي أبناء القرية الذين منعهم من التعليم الجامعي حتى لا تبور الأرض بعد أن يصبح الجميع «موظفين».

ورغم صرامة العمدة الحادة، فهو يخشى النوم كي يهرب من مطاردة شقيقه في أحلامه، ويستقيظ مفزوعا غارقا في دموعه.

شخصية «الطاغية الحنون» أداها بعبقرية مذهلة الفنان محمود مرسي، بكل تفاصيلها و«منمنماتها» وكأنه خلق ليكون صقر الحلواني أكثر من صقر نفسه، ويشعر المشاهد أنه يرى العمدة الطاغية يؤدي دوره مع باقي الممثلين.

الأعجب من أداء محمود مرسي الذي ينافسه فيه آل باتشينو وروبرت دي نيرو، هو ترديد الشباب لعبارة «أحمد زكي أعظم ممثل أنجبته مصر»، وأقول لهؤلاء: شاهدوا فيلم سعد اليتيم وقارنوا بين أداء مرسي وزكي، وإذا لم تتغير قناعاتكم فراجعوا معلوماتكم عن الفن السابع.

رمزية أسامة أنور عكاشة كانت واضحة، ولعله أراد بذلك تأكيد المعنى في ذهن المشاهد، فعلى سبيل المثال نرى مسئول الأمن الأول في البلد يغتصب الفتاة البسيطة «وطنية» حتى لا تكشف ما تعرفه من أسرار الكبار.

لكن لم يوفق المؤلف في رسم ملاح شخصية «الحسيني» ابن العمدة السابق، الذي يفجر الثورة في أقصى لحظات تمكين صقر الحلواني في البلاد والعباد، ففكرة البطل الذي يقدم نفسه «فداء» للآخرين ليست واضحة في العقل الجمعي العربي، مثل وضوحها في الغرب إذ أن فكرتي «الخلاص» و«الفداء» بارزتان هناك في الأدب والسينما، نظرا لأن الثقافة الغربية تأثرت كثيرا بالمسيحية، حتى بعد انتشار العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وبقيت هذه الأفكار جزءا من المكون الثقافي هناك.

وحتى اختيار اسم الشخصية مستمد من الحسين بن على رضي الله عنهما لا تدلل على فكرة الفداء، التي ربما تكون واضحة عند الشيعة طبقا لعقيدتهم المتأثرة كثيرا بعبادة بعل التي انتشرت في بابل وقت سيطرة الفرس على العراق.

ورغم كل هذا فأداء عبد الله محمود لشخصية الحسيني الذي لا يمتلك أي قوة لمواجهة الطاغية سوى تمسكه بالحق، كان بارعا وساعدته ملامح وجهه كثيرا في ذلك، ليصبح نموذجا للمقهور الذي يواجه الطاغية رغم ضعفه.

وتنتهي أحداث المسلسل بحصار أهل القرية للعمدة في منزله بعد هروب كل من أعانوه على ظلمه، ويصدر الحكم بمغادرته البلد ولكن ينطلق عيار طائش ينهي حياة «الطاغية الحنون».

وهكذا ينجح الثوار في إسقاط طغيان صقر الحلواني، أما لماذا لم تنجح الجماهير في إسقاط طغيان فضة المعداوي فهذا ما يجيب عنه المقال المقبل.
Advertisements
الجريدة الرسمية