رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

في معية يوسف (١٧)


لا يستطيع حاكم أو رئيس أو ملك- مهما كانت قدراته ومهاراته وكفاءاته- أن يقوم بمفرده بقيادة دولة، حتى وإن كانت صغيرة وذات مساحة محدودة، وتضم شعبا ذا عدد قليل؛ فكيف بدولة كبيرة مثل مصر؟ لذا، من المنطقي- بل من الضروري- أن يختار الحاكم إلى جواره من يعاونه، كل في مجاله، بحيث يكونون همزة الوصل وجسر العبور بينه وبين احتياجات الشعب.. وكلما كان هؤلاء المعاونون على درجة عالية من الطاقة والقدرة والكفاءة، تقدمت الدولة وارتقت، وصارت لها مكانتها المتميزة بين الدول، والعكس صحيح..


والحاكم اللبيب هو من يختار معاونيه الذين يتوافر فيهم الخيال الخصب، والرؤية الشاملة، والإرادة القوية، والرغبة الأكيدة في الارتقاء بالدولة والمجتمع في جميع المجالات، وأن يكون متابعا لهم بشكل لصيق ودقيق، وتواصله معهم مبنى على منهج شورى حقيقي، فلا استبداد بالرأي ولا تعسف في اتخاذ القرار.. وفي قصة يوسف (عليه السلام)، تأكد لدى الملك عندما تحدث إليه أنه الشخص المنقذ، العالم، الحكيم، والأمين، وهو ما برز في قوله: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)..

فما كان من يوسف إلا أن قبل المهمة على الفور، من منطلق إحساسه العميق بأمانة المسئولية، وقال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِن الْأَرْضِ)، وذلك إدراكا منه أن المشكلة التي تعانيها مصر هي اقتصادية بالدرجة الأولى، وأن الأمر يحتاج إلى رؤية، وقدرة على التخطيط والإدارة، فضلا عن المتابعة (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي أمين على ما استودعتني إياه..

لقد طلب يوسف الولاية رغبة في إقامة الحق والعدل، وليس من جهة التزكية للنفس.. هذا الموقف الذي أبداه يوسف يفتح أمامنا بابا مهما وهو ألا يتخلف أولو العلم - بدافع الخجل أو الخوف من إساءة الظن بهم- عن تقديم قدراتهم وكفاءاتهم لأولى الأمر، حتى تتم الاستفادة منهم، وعلى أولي الأمر أن يستوثقوا من هؤلاء أنهم ما قصدوا إلا المصلحة العامة.. وقد قبل الملك إسناد المسئولية الاقتصادية ليوسف (كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ)، أي وهكذا من الله تعالى على يوسف في أرض مصر، وجعل له العزة والمكانة والسلطان، بعد أن كان حبيسا مضيقا عليه (يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ)، أي يتخذ له دارًا خاصة به، حيث يشاء ويتصرف في المملكة كما يريد..

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، لأنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملا (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، بل إن الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى لهم في الآخرة لأجل وأعظم من هذا النعيم العاجل في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)، ولكي يتم الله تعالى نعمته على يوسف، جاء بإخوته إليه: (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)، أي عرفهم لفطنته وحضور ذاكرته، لكنهم لم يستطيعوا ذلك، فالفارق كبير بين الأمس البعيد واليوم، فأين الصبي الصغير "يوسف" الذي لم يكن له حول ولا قوة، من هذا السلطان الذي تعلوه الهيبة والوقار؟! قال ابن عباس: "كان بين إلقائه في الجب وبين دخولهم عليه اثنتان وعشرون سنة فلذا أنكروا".. وكان سبب مجيئهم ذلك القحط والمجاعة التي أصابتهم وعمت البلاد، فخرجوا إلى مصر ليشتروا الطعام الذي أدخره يوسف لأهل مصر.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
Advertisements
الجريدة الرسمية