رئيس التحرير
عصام كامل

الجامعات ويحيى القزاز


في خضم الأزمة التي اجتاحت فرنسا في أواسط الستينيات من القرن الماضي وصل تقرير للرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول عن انتشار الفساد في حنايا مؤسسات الدولة فسأل "هل وصل الفساد إلى القضاء والجامعات؟" فقيل له ليس بعد فقال: "إذن هناك أمل!".


ألهذا الحد تصل أهمية المؤسستين: مؤسسة القضاء ومؤسسة الجامعة؟

والإجابة بالقطع نعم؛ فمؤسسة القضاء مسئولة عن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين وخضوع جميع مؤسسات الدولة لسيادة القانون، ومن هنا نص الدستور في صدر مواده الأولى على أهمية استقلال القضاء والفصل بين السلطات ومبدأ سيادة القانون الذي يسهر على حمايته القضاء.

ومن هنا كان أكبر الفساد هو ادعاء بعض مؤسسات الدولة عدم خضوعها للقانون بحجة أو بأخرى لمنع الرقابة عليها وعلى قراراتها، وأعظم الفساد هو محاولة إخضاع القضاء للسلطة التنفيذية ومنحها حق اختيار رؤساء الهيئات القضائية ليكون للسلطة التنفيذية أذرعا مختارة داخل الهيئات القضائية، وينشأ لها مريدين يقدمون أنفسهم بكل طريقة تظهر مدى تعاونهم وطاعتهم أملا في تقلد المناصب الرفيعة التي أصبحت بيد أصحاب السلطة التنفيذية.

ورغم أن القضاء أصابه عبر عشرات السنين نصيبا مما أصاب جميع مؤسسات الدولة المصرية، خاصة في التعيينات والانتدابات والرواتب والمكافآت إلا أن كل ذلك لا يبرر ولا يعتبر إلا نقطة في بحر الظلمات الذي قبل البرلمان أن يكون أداة لإغراق القضاء فيه بتعديل قانون السلطة القضائية وتمكين السلطة التنفيذية من التحكم في السلطة القضائية عن طريق حق الاختيار في تعيين رؤساء جميع الهيئات القضائية الذين يشكلون مجلس القضاء الأعلى.

ثم نأتي للجناح الثاني لنهضة كل أمة رغبت في التقدم أو حتى مجرد البقاء وهو الجامعات.. فالجامعات هي عقل وضمير كل أمة فيها يعد شبابها ليكونوا حفظة تاريخ الأمة وصناع مستقبلها، فالجامعة تختلف عن مؤسسات التعليم الأخرى في أنها ليست مجرد مؤسسة تعليمية بل تتخطى ذلك إلى أنها مؤسسة تعليمية تدريبية تثقيفية بحثية يلتقي فيها طلاب العلم في جميع فروعه ليعيشوا سنوات من عمرهم في مناخ يخلق حرية الفكر والتعبير والإبداع في جميع  مناحي الحياة ليتعلم الطالب فن الحياة قبل أن ينهل مما يختاره من فروع العلم ويختلط مع جميع عناصر المجتمع من طبقات وأعمار وعقائد ومرجعيات مختلفة في بيئة آمنة يشرف عليها خبراء من أعضاء هيئة التدريس يساعدون الطلاب على إثراء هذه البيئة، واكتساب أكبر قدر من الخبرات قبل المعرفة وحمايتهم في مرحلة حساسة من العمر من الأفكار المتطرفة والهدامة في فترة حساسة من مراحل النضوج الفكري.

وتمثل فترة الجامعة أكبر فرصة لكل طالب في اكتشاف الذات بالتعرف على الميول والمهارات عن طريق الانخراط في الأنشطة الجامعية – إن وجدت ! – كفرصة أخيرة في تحديد التوجهات المستقبلية.

ولقد نشأت الجامعة المصرية منذ تأسيسها عام 1908 كمؤسسة أهلية غير هادفة للربح بنيت على الديمقراطية وحرية الرأي رغم أن أول رئيس لها كان الأمير أحمد فؤاد ولي العهد إلا أن مجلس الإدارة كان حريصا على عدم التدخل في الشئون الأكاديمية للجامعة وكان لرواد التنوير كقاسم أمين سكرتير الجامعة دورا كبيرا في الحفاظ على ذلك التوجه.

ولم يؤثر توسع الجامعة وتعدد كلياتها وحتى تحولها إلى جامعة عامة مملوكة للدولة عام 1924 بسبب المشكلات المالية على فكرة استقلال الجامعة ونظامها الديمقراطي فاستمر اختيار عمداء الكليات بالانتخاب من بين الأساتذة وهكذا كان طه حسين أول عميد مصري منتخب لكلية الآداب وحارب الأساتذة الرواد محاولات السلطة التنفيذية وغيرها من التدخل في الحياة الأكاديمية، ومن ذلك ما أصدره مجلس الجامعة من بيان في أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين وكانت أكبر علاماته استقالة الدكتور أحمد لطفي السيد يوم التاسع من مارس 1932 احتجاجا على تدخل وزير المعارف ومحاولته نقل الدكتور طه حسين تعسفيا إلى ديوان وزارة المعارف، انتقاما من مواقفه السياسية ولم تنتهِ الأزمة إلا بعودة طه حسين إلى كرسيه الجامعي.

وظلت الجامعة المصرية واحدة من أفضل الجامعات في العالم يحج إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب وينازعه أساتذتها أهم علماء العالم مكانتهم ولا ننسى الدكتور علي مصطفى مشرفة العميد المنتخب لكلية العلوم عدة مرات حتى 1952 عندما بدأت السياسة تهدد الجامعة وكانت الطامة الكبرى بإنشاء المجلس الأعلى للجامعات مجلس حاكم متحكم في الجامعات ومسئول أمام السلطة التنفيذية عن التحكم فيها، وتغيرت القوانين من قانون 1958 وتعديلاته حتى جاءت الضربة الثانية في 1972 بصدور قانون الجامعات الحالي الذي ألغى كراسي الأستاذية وحولها إلى درجة وظيفية وترقية يمكن الحصول عليها باستيفاء بعض الأوراق وصار المنع والمنح ممكنا وفتح باب الفساد على مصراعيه واختل الهيكل الوظيفي وتباين مستوى الأساتذة وثقافتهم بشكل كبير..

واستمر التدهور حتى كانت الضربة القاضية بتعديل قانون الجامعات في 1994 بإلغاء انتخاب العمداء بعد 86 عاما من الديمقراطية، وبدأت السيطرة المطلقة لرؤساء الجامعات الذين أصبح لديهم القدرة على تعيين أعضاء مجلس الجامعة بدلا من أن يكونوا منفذين لقرارات المجلس.

وبدأ الانهيار في الجامعات بعد أن تبارى بعض ضعاف النفوس في خطب ود السلطة في سبيل تقلد المناصب الإدارية في الجامعات، وبدأت في عام 2003 محاولات لإحياء استقلال الجامعات وأطلقت الدكتورة رضوى عاشور سؤالها الجوهري: ما الجامعة؟ فاتحة الباب لنقاش حول ما آلت إليه الجامعات المصرية مقارنة بالجامعة كما يجب أن تكون.

ومع المحاولات المتنامية لمجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات ومجموعة جامعيون من أجل الإصلاح وغيرها من الكيانات الجامعية والتي توحدت بعد ثورة يناير 2011 في ائتلاف موحد لأعضاء هيئة التدريس، نظم أكبر مؤتمر في تاريخ الجامعات المصرية في 2012 حيث تمت صياغة مبادئ الإصلاح الإداري والأكاديمي والمالي وضرورة كتابة قانون جديد للجامعات وتم تشكيل مجلس استشاري لوزارة التعليم العالي خاض مفاوضات ماراثونية مع جميع  مؤسسات الدولة لتعديل قانون الجامعات بشكل مؤقت وحتى كتابة القانون الجديد.

وافق المجلس العسكري –صاحب سلطة التشريع وقتها- على مشروع القانون ووقع عليه الدكتور محمد مرسي بمجرد توليه السلطة لتعود الديمقراطية إلى الجامعة ويبدأ الاهتمام بأوضاع أساتذة الجامعة، بدأت الجامعات تستعيد استقلالها وكانت عصية على الحركات السياسية بما فيها الإخوان المسلمين ففي الوقت الذي اكتسح فيه الإخوان كل انتخابات أجريت في مصر حتى وصلت النسبة 94% في مجلس الشورى بدت نوادي أعضاء هيئة التدريس في كثير من الجامعات عصية عليهم ولم يتمكن مرشحو الجماعة من الفوز إلا في 8 كليات من بين أكثر من أربعمائة كلية في الجامعات المختلفة.

إلا أن سدنة الفساد ومحبي المناصب كانوا على استعداد للتعاون مع السياسيين لاستعادة السيطرة على الجامعات واستخدم الإعلام للترويج لأكاذيب كقول إن الجامعات المصرية لم تشهد انتخابات من قبل أو إن جامعات العالم ليس بها ديمقراطية منعا لأي تقييم موضوعي للتجربة الجديدة.

وكان كل ذلك تمهيدا لصدور أول قرار بقانون من المشير السيسي بمجرد توليه السلطة بإلغاء الديمقراطية في الجامعات ومنح نفسه حق اختيار رؤساء الجامعات وعمداء الكليات من بين 3 أسماء ترشحها له لجان معينة بالمخالفة للدستور الذي ينص على استقلال الجامعات حماية لها من التقلبات السياسية.

وبدأ عصر جديد من فساد الإدارة تبارى فيه بعد الأساتذة في محاولات إظهار الولاء والخضوع التام للأجهزة الأمنية ليتم تزكيتهم للمناصب المرموقة وتركت بعض الكليات دون عمداء شهورا طويلة وتركت بعض الجامعات دون رؤساء لمدة تقترب من العامين، لم تستقر فيهما الأجهزة الأمنية على اسم من بين المرشحين لتولي المنصب!

ومؤخرا سمعنا عن قائم بأعمال رئيس جامعة حلوان يحيل الأستاذ الدكتور يحيى القزاز الأستاذ بكلية العلوم للتحقيق بسبب تعبيره عن رأيه على صفحات التواصل الاجتماعي ليبدأ فصل جديد من التدني حيث يترصد فيه بعض الأساتذة لآراء زملائهم ليكيدوا لهم إظهارا لولائهم وجدارتهم للمهام الأمنية في منع التعبير عن الرأي في الجامعات تزكية لأنفسهم لتولي المناصب الملعونة.

لن يكون هناك أمن دون استقلال القضاء وسيادة القانون وصولا إلى عدالة تضمن المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولن يكون هناك مستقبل مشرق دون جامعات حقيقية مستقلة تكون قاطرة لنهضة المجتمع وصانعة لمستقبله تكون واحة لحرية الرأي والتعبير والإبداع.

الجريدة الرسمية