رئيس التحرير
عصام كامل

قصة قصيرة.. رجل تحت «العادي»

فيتو

غريب هو الإنسان، فمهما كان الأمر غير مألوف ومنبوذ، يعتاده، يعتاد النسيان وكذلك الذاكرة الفولاذية، يروق له بقاء أحدهم فيعتاده، ولكن إذا رحل وابتلعته أسباب الغياب، يعتاد رحيله.. هكذا هو وهكذا الحياة.


لم تمر سوى أشهر قليلة جدًا، حتى تمكن من اعتياد هذا المكان خافت الضوء، ثقيل الرائحة، مكتبه الخشبي المكتظ بالأوراق، الأختام الجافة، ونظارته الطبية التي لا يدري لِمَ يحرص على كل هذا الحرص على ارتدائها، حتى حين ينام يلصقها بوجهه ويثبت أصابعه الغليظة القصيرة فوقها، فكلما همت زوجته بسحبها من تحت أصابعه يصرخ فيها وهو مغمض العينين: "اتركيها وارحلي سأموت وهي في وجهي".

كان كرسيّه في المكتب ملاصق للحائط الذي يعلوه "شباك" متوسط الارتفاع، يطل على أحد الشواطئ النيلية بحي الدقي، لكنه ولرغبة بداخله، تدفعه دائمًا لتأمل تلك النقطة البيضاء المتعرجة التي تصنعها حدقته حين يمعن النظر للشمس في وضح النهار، ثم ما تلبث أن تستقيم حين الغروب!. عادة طفولية لازمته وألِفها، أن يراقب الشمس وهي تتهاوى تدريجيًا ويبتلعها السحاب، فيسب السحاب بأقذع الألفاظ كلما خبأ الشمس عنه في "جيبه".

وبعد أن مرَّ أكثر من ثلاثين عامًا، داوم على تأمل الشمس، حتى حينما التحق بوظيفته كمحاسب في شركة توظيف عمالة للخارج، أحسن القدر صنيعه، لأول مرة، وجعله يجلس في الغرفة، التي يتمكن من خلال شرفتها مراقبة خيوط الغروب المستقيمة.

وصفه الساعي بالجنون حين دخل عليه ووجده يستبدل موقع الكرسي، فيضعه في الجهة الخارجية للمكتب ليكون في مواجهة مباشرة للشمس، لكنه لم يبال بحديثه، يترك عشرات الطلبات والسير الذاتية تتكدس فوق بعضها، ويتفرغ لتأملاته.

حين تسلل لأخيه خريج كلية الفنون الجميلة خبر افتتان أخيه بالشمس، رسم له قرص الشمس على ورقة بيضاء متوسطة الحجم، وأوصى أن توضع أمام سريره حتى يستطيع تأملها في الليل!.

كان مولعًا بالتفاصيل ودقائقها الخاطفة للروح، حتى حين أحب لأول مرة، وكانت زوجته، أحبها حين عرف أنها لا تشبه فتيات العمل ومنطقة سكنه، حينما تضع مساحيق التجميل تختلف عنهن، مشيتها ابتسامتها، أول مرة يراها كانت تلقى قصيدة نثرية على صديقاتها عند كوبري الجلاء، كان في طريقه للعمل، ما زال محتفظًا بأول رسالة بينهما حين كتب لها "عزيزتي التي أعير اهتمامًا لاسمها، فض صوتك مضجعي بالأمس، حتى أنني نسيت أن ألقي التحية على قرص الشمس، كأنك نواة زُرعت في رأسي وروتها عشوائيتي وضجيج حديثنا الصامت، نبرات صوتك وأنتِ تلقين قصيدتك عن جدائل الفتاة الشمعي، أريدك زوجة ولمسة ساحرة على لوحة فوضاي التي أخطها، أعلم أنكِ تبتسمين الآن وسأنتظر ردك بالموافقة لا تتأخري.. والسلام على عينين لم تلق عليّ السلام".

تسع سنوات انقضوا على زواجه، وهاهو لا يرى زوجته ولا ابنه، ضاقت من الحياة معه، إهماله لها ولعمله، وتعدد خطابات الإنذار بالفصل من الشركة إذا تكرر غيابه وتركه لخطابات التقدم دون مراجعتها، كانت الإنذارات تلاحقه في بيته وبيت العائلة، آثر قرص الشمس عليها، فانتقلت وطفلهما إلى بيت والدها، تركته لأهوائه تتقاذفه ولقرص الشمس يحرق لبه.

أصبحت الحياة بالنسبة له قضية من قضايا صديقه المحامي، يرمي إلى الطعن ضدها!، هكذا كان يتهكم هو وصاحبه:
- أريد أن أطعن على حياتي هل يجوز!
= على حسب "الأتعاب".

أصابه الملل والخمول، حتى قرص الشمس بات مملًا وبدأت تعاريجه التي لا يراها سواه، تتلاشى، ترك عمله بشركة توظيف العمالة، وباع البيت لأحد تجار الفاكهة، واستأجر حجرة فوق سطح منزل عشوائي بمنشأة ناصر.

ومن حجرة منشأة ناصر، لجناح الحالات الحرجة بمستشفى "الأمراض العقلية بالعباسية"، أو كما أطلق عليها فيما بعد "مستشفى لحظة الإفاقة"!. لا يدري من جاء به إلى هنا ومتى تم ذلك.

ومع الأيام بدأ المرضى والأطباء يتعجبون من انقطاع الجميع عن زيارته، ماعدا ابنه الذي كان يأتي من حين لآخر مع صديقه المحامي، وفي آخر زيارة له أحضر معه ورقة وألوان ورسم له قرص الشمس وعلّق اللوحة الصغيرة فوق سرير والده، وانقطع بعد ذلك نهائيًا.

ثلاثة أشهر مروا عليه وهو على تلك الوضعية مسجى فوق سريره الحديدي، نظارته ملتصقة بوجهه، لا يفصلها عنه إلا حبات العرق التي تتسلل بين عينيه من حين لآخر.

وفي أحد أيام يوليو الملتهبة، وجدوه في فناء المستشفى نائمًا على ظهره، والشمس تتعامد على جسده النحيل، فاتحًا ذراعيه وفي إحدى يديه يمسك على الورقة التي رسمها ابنه له، وردد الذين شاهدوه أنه ظل طالقًا ذراعيه في الفضاء يشير إلى الشمس ويردد كالمحموم: "الخطوط المتعرجة عادت من جديد تتصارع على عيني كالسهام.. أشعر بوخزها لا تغلقوا عيني ولا تزيلوا عنها النظارة، حتى يأتي الغروب فوخزه لا يرهق ولا يدمي".

ثم تهاوى ذراعه بقوة وانقطعت أنفاسه، وانزلقت اللوحة من يده مهترئة الحواف.
الجريدة الرسمية