رئيس التحرير
عصام كامل

من لا يملك تنازل لمن لا يستحق


ما أن انتقلت ملكية "تيران وصنافير" إلى السعودية، بعد تصديق الرئيس السيسي على اتفاقية تعيين الحدود، حتى احتفت المواقع والحسابات السعودية بانتقال السيادة إليهم، ونشر أحد الحسابات أن رفع العلم السعودي على الجزيرتين سيرافقه احتفال رسمي كبير، فيما برر أكاديمي سعودي، سرعة مناقشة أزمة الجزيرتين بالبرلمان المصري وإقراره التنازل عنهما بحزم الملك سلمان، وقال:"عندما تلكأت مصر في تنفيذ الاتفاقية فوجئت بحزم سلمان.. ثم لم تجد بديلا عن الالتزام برد الحقوق إلى أهلها".. وكأنه يلمح إلى إذعان مصر لرغبة السعودية!.


مثل هذه المشاركات مع ما أحاط بالاتفاقية من غموض وملابسات، يوغر الصدور ويسبب عداء بين الشعبين الجميع في غنى عنه، وسط ما يحيط بالمنطقة من تحديات. لكن سوء إدارة الحكومة للأمر من البداية تسبب في انقسام الشعب.

فلم تمهد الحكومة لوجود مفاوضات بشأن الجزيرتين أو تعيين للحدود، بل وقعت الاتفاقية مباشرة أثناء زيارة الملك سلمان للقاهرة، وإعلانه عن حزمة مساعدات، فبدا كأن مصر تتنازل عن الجزيرتين مقابل المساعدات السخية!.

لم تتدارك الحكومة الأمر، ولم تظهر وثائق تؤيد تنازلها عن الجزر الحيوية، وإن أكدت أن الملك عبدالعزيز آل سعود طلب من ملك مصر حمايتهما لعدم وجود قوات بحرية سعودية تحميهما، في المقابل نشر المعارضون وثائق تثبت مصرية الجزيرتين، وفي ظل الانقسام لم تنفذ الاتفاقية وحدثت الأزمة المكتومة بين البلدين، وبدأ "القصف الإعلامي" المتبادل بعد أن أوقفت "أرامكو" السعودية توريد شحنات النفط للضغط على مصر.

القريب من الشأن السعودي يعرف أن "أرامكو" أوقفت النفط بإيعاز من الأمير محمد بن سلمان، باعتباره رئيسها المباشر، لأنه بنى جزءا مهما في خطته الاقتصادية للمملكة "رؤية 2030" على الاستغلال الأمثل للحدود الواقعة على البحر الأحمر، ودفع الاقتصاد وتنميته وهذا لن يتم إلا بتغيير الواقع، وانتقال الجزيرتين إلى السيادة السعودية، وتشييد جسر الملك سلمان الذي يربط البلدين.

انتهت الأزمة بين مصر والسعودية، وعاد معها الحديث عن إتمام التنازل عن الجزيرتين، وبين أحكام قضائية تؤيد وأخرى تعارض، قررت الحكومة أن تكون الكلمة الفصل في الاتفاقية للبرلمان، لأنها تضمن تصويت الأغلبية معها، وإلا ما كانت جميع قرارات الحكومة نالت الموافقة البرلمانية رغم عدم الترحيب الشعبي، ضمان الحكومة موافقة البرلمان جعلها لا تأبه بتهديد الرافضين، ولم تهتم بتقديم أدلة جديدة على سعوديتهما، كما لم تبال بالغضب الشعبي.

البرلمان كان في عجلة من أمره، حيث أقرت الاتفاقية في اللجان المختصة بسرعة غريبة، لتشهد جلسة التصويت والمناقشة أحداثا مؤسفة منها تهديد خبيرة ترسيم حدود دولية لتأكيدها أن الجزر مصرية، وسط إصرار البرلمان المنتخب على تمرير اتفاقية التنازل عن الجزيرتين بأي شكل، وبهذا يكون "من لا يملك تنازل لمن لا يستحق" دون أدنى اعتبار للشعب صاحب الأرض والسيادة والقرار!.

تمرير الاتفاقية برلمانيا جعلها نافذة بانتظار توقيع الرئيس عليها، وهو التنازل الذي احتفت به إسرائيل، حتى إن الوزير ليبرمان هنأ الشعب وجنود حرب الأيام الستة، معتبرا أن نقل تبعية الجزر للسعودية تجعلها ممرًا ملاحيًا دوليًا لا سيادة لمصر عليه، وأن "التنازل يثبت حقنا في حرب 1967 ضد قرار عبدالناصر بإغلاق مضيق تيران، ومنع السفن الإسرائيلية من المرور فيه، وبناء عليه يثبت أمام العالم أحقية إسرائيل في جميع الآثار المترتبة على الحرب بالسيطرة على سيناء، واستعادة القدس وهضبة الجولان وغزة والسامرة وغيرها".

فرحة ليبرمان ومطالبته باستعادة سيناء، جعلت الشعب المصري يطلق على تيران وصنافير "الجزر المحتلة" ويدعو إلى تحريرهما بأي ثمن، وتزامن مع ذلك دعوات سودانية لاستعادة "حلايب وشلاتين"، فضلا عما يتردد عن "صفقة دولية" لتقارب إسرائيلي خليجي تقوده السعودية لمواجهة تعاظم نفوذ إيران، على أن يتم ترضية الفلسطينيين بحل قضيتهم، فخشي الشعب المصري من إحياء فكرة تمدد الفلسطينيين على جزء من سيناء، وبذلك يربح الجميع وتحل مشكلات المنطقة على حساب الأرض المصرية.

كنا جميعا في غنى عن ذلك، لو تعاملت حكومة شريف إسماعيل بشفافية منذ البداية، ووضعت الشعب في صورة الاتفاقات مع الدول الأخرى، وبعد أن حدثت الأزمة وزاد اللغط بين المؤيدين والمعارضين، كان يفترض إما طرح التنازل في استفتاء على الشعب باعتباره صاحب القرار، أو اللجوء إلى التحكيم الدولي للفصل في أمر الجزر، حتى تبعد الحكومة عن نفسها شبهة التفريط في الأرض!.

الجريدة الرسمية