رئيس التحرير
عصام كامل

المشروع الفردي لا يبني وطنا !!


عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 كانت مصر تقع تحت سيطرة ملك فاسد واحتلال بريطانى غاشم، وكان الغالبية العظمى من المصريين يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية طاحنة، وكان الفلاح المصرى يعمل في ظل ظروف قاسية ولا يملك إلا قوة عمله يضطر لبيعها ليحصل على ما يصلب طوله ويشد عوده بالكاد، ويصف علماء الاجتماع والاقتصاد المجتمع المصرى في تلك الفترة بأنه مجتمع النصف في المائة أولئك الذين يمتلكون الثروة والسلطة والنفوذ في مقابل غالبية ساحقة من الفقراء والكادحين والمهمشين تهدر كرامتهم وتهان إنسانيتهم بشكل مستمر.


وجاء الكثير من أدبيات العلوم الاجتماعية ليصف المجتمع المصرى في تلك اللحظة التاريخية بأنه مجتمع الفقر والجهل والمرض، ولم يكن هناك أي أمل أو طموح في الصعود والترقي الاجتماعي لأبناء الغالبية العظمى من شعب مصر، وخلال هذه المرحلة لم يكن هناك مشروعا وطنيا يمكن أن يلتف حوله الغالبية العظمى من المواطنين بل كانت طموحات الغالبية منخفضة للغاية فلا أمل لأبناء الفلاحين في مواصلة تعليمهم من أجل إحداث حراك اجتماعى صاعد.

وانحصرت الطموحات لدى الشرائح الطبقية الدنيا من الطبقة الوسطى من أبناء الموظفين وصغار الملاك في الريف من تمكين أبن أو أكثر داخل العائلة من مواصلة تعليمه ليتمكن من الصعود على السلم الاجتماعي، لكن تظل كل هذه المحاولات في نطاق المشروع الفردي الذي لا يبنى وطن، فالقيم الفردية والأنانية هي السائدة والمسيطرة خلال هذه المرحلة التاريخية، ذلك لأن القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المسيطرة لا تملك مشروعا وطنيا يسعى لتمكين المواطنين من بناء أنفسهم ومجتمعهم.

وجاءت الثورة وأطاحت بالملك الفاسد وعقدت اتفاقية جلاء مع المحتل البريطاني وبذلك تحقق الاستقلال الوطني، وتمكنت الثورة من بناء مشروع وطني يسعى إلى تمكين الغالبية العظمى من الفقراء والكادحين والمهمشين من الحصول على فرص حقيقية للحياة، فبعد أيام قليلة من الثورة تم توجيه ضربة قاسية للإقطاع عبر صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي وضع حد أقصى للملكية وتم توزيع الأرض الزائدة داخل كل إقليم على الفلاحين الإجراء وكانت الخطوة الأولى لتحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين المواطنين من ثروات بلادهم، تلاها مجموعة من الإجراءات لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين حيث إتاحة فرص التعليم والصحة والإسكان والتأمينات والمعاشات وغيرها، مما جعل قيم الانتماء والولاء تتصاعد، إلى جانب ارتفاع طموحات المواطنين في الحراك الاجتماعي عبر المشروع الوطنى الجديد، وهو ما ساعد على بناء الوطن خلال هذه المرحلة التي امتدت من 1952 وحتى رحيل الزعيم جمال عبد الناصر 1970.

وجاءت مرحلة السبعينيات وأعلن الرئيس السادات تخليه عن المشروع الوطنى منذ اللحظة الأولى، وقرر السير وفقا للمشروع الأمريكى الغربي التابع الذي يعلى من قيم الفردية والأنانية والمادية، ومع تبنى سياسات الانفتاح الاقتصادى بدأت منظومة القيم التي أسستها ثورة 23 يوليو 1952 في الانهيار فلم يعد التعليم وسيلة للحراك الاجتماعى، ولم يعد العمل المنتج الذي يبنى الوطن قيمة في ذاته، وأصبح جمع المال بأى وسيلة – مشروعة أو غير مشروعة – هدف في حد ذاته، وبدأت الدولة في التخلى عن مسئوليتها الاجتماعية تجاه مواطنيها في كل المجالات تعليم وصحة وإسكان وتأمينات ومعاشات وغيرها، ومع غياب المشروع الوطنى بدأ المواطنون يركزون في مشروعهم الفردى ذلك المشروع المنسحب والمنكفئ على الذات.

ومع مرور الوقت أصبح المشروع الفردى القائم على القيم المادية هو الأساس الذي يسعى كل مواطن إلى إنجازه، فقيمة الوطن والحفاظ على ثرواته وآثاره وأرضه تدنت إلى أن وصلت للحضيض، لذلك لا عجب أن ترى من سعى لبيع ممتلكات الشعب عبر سياسات الخصخصة ولا من قام بسرقة الآثار وتهريبها وبيعها ولا من يسعى إلى التفريط في التراب الوطني، فلم تعد هذه القيم جزء من المشروع الذي تتبناه دولة الانفتاح، فالقيم الجديدة السائدة الآن هي قيم الفساد والفهلوة والسرقة والنهب والتفريط والتطبيع مع العدو تلك القيم التي يعتمد عليها المشروع الفردي الذي قام بتدمير كل ما هو إنساني، فالحكم على الإنسان في إطار هذا المجتمع ( كم تملك من النقود )، هذا ما يحدد قيمتك حتى داخل محيط أسرتك الصغيرة، فلم يعد يسألك أحد ( كم تملك من العلم والإبداع والأخلاق والشرف ) وإذا كنا نرغب في إعادة بناء الوطن فعلينا أولا أن نتخلى عن هذا المشروع الفردي لأنه مشروع لا يبنى وطنًا.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.
الجريدة الرسمية