رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (١٥)


يعتبر علو الهمة، وصدق العزم، وجودة التخطيط، وحسن الإدارة، وجدية العمل، أمورا مهمة وضرورية ولأزمة لنهضة ورقي وتقدم أي أمة.. والذي ينظر إلى حال المصريين، خاصة بعد ثورة ٢٥ يناير يجد عجبا.. فلا همة، ولا عزم، ولا تخطيط، ولا إدارة، ولا عمل، وبالتالي حدث تدهور وانهيار في معظم مجالات حياتنا، واضطر الشعب المصرى إلى استيراد حاجاته الأساسية من الخارج.. ومع انتشار الفساد وكل صور الاحتكار، قل المعروض وزاد الطلب، وارتفعت الأسعار بشكل جنونى، وأصبح الشعب يعيش معاناة حقيقية..


وللأسف، لم يجد هناك من يأخذ بيده ويقوده إلى بر الأمان.. ويبدو أن هذه الحالة، قريبة الشبه بما كانت عليه مصر في زمن يوسف عليه السلام.. ولأن الله تعالى أراد بمصر خيرا، فقد رتب لخروج يوسف من سجنه، لكى يتولى أمرها، ومن ثم كانت الرؤيا العجيبة التي رآها الملك.. وقد طلب الساقي أن يأذنوا له بلقاء يوسف في السجن، فهو الوحيد الذي يستطيع بما عنده من علم أن يخبرهم بحقيقة الأمر.. ولحاجتهم إلى الوقوف على دلالة ومغزى رؤيا الملك، وافقوا على إرساله إليه..

وعندما التقاه طلب منه تفسير تلك الرؤيا فقد احتار الملك في تفسيرها هو ووجهاء القوم، لعله (أي الساقي) يرجع إليهم ليعلموا ما عند يوسف من علم وفضل، وقد تكون هذه فرصة لخروجه من السجن.. ولأهمية القضية، شرع يوسف على الفور في تفسيرها، فقال له: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا»، أي لا بد للقوم أن يبذلوا أقصى جهدهم في زراعة الأرض لمدة سبع سنين.. وفي كل حصاد تجمعونه، وجب عليكم أن تتركوه في سنبله حتى لا يصيبه التسوس..

ثم استدرك قائلا: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ»، أي تجعلون جزءا قليلا مما حصدتم لطعامكم، وتتركون الباقي في سنبله، على سبيل الادخار لأنكم حتما سوف تحتاجون إليه في فترة القحط والجدب التي تأتى عليكم «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ»، وهذه سوف تستنزف كل ما ادخرتموه أيام الرخاء «يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ».. «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ»، أي بعد هذا القحط الشديد، سوف يأتي عام يتنزل فيه المطر، فينبت مختلف أنواع الزرع والأعناب التي تعصرونها..

قال الزمخشرى: «تأول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم».. وعندما رجع الساقي إلى الملك أخبره بما قاله يوسف، فاستحسنه وأعجب به، وكان منطقيا أن يأمر بإحضاره «وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ»..

ولما جاء الساقي يوسف، رفض أن يخرج هكذا من السجن حتى تبرأ ساحته من تلك التهمة الشنيعة التي ألصقت به زورا وبهتانا، وحتى يعلم الناس مدى الظلم الذي وقع عليه، وقال ارجع إلى الملك «فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» وهل لديه علم بأمرهن؟ وهل يدري لماذا أدخلتُ السجن دون ذنب أو جريرة؟ ثم قال: «إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ»، أي أنه سبحانه هو وحده العالم بخفايا الأمور، وبما دبرن من كيد.. (وللحديث بقية.. إن شاء الله).
الجريدة الرسمية