رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (١٤)


من أبرز القضايا التي تناولتها وأكدتها قصة يوسف (عليه السلام) -من بدايتها حتى نهايتها- قضية الإيمان وأهميتها الكبرى في حياة الإنسان، خاصة في فترات المحن والشدائد، فهى تمنحه رصيدا هائلا من الصبر وقوة التحمل، فضلا عن التعلق بالأمل.. ولأن الله تعالى هو واهب الحياة وصاحب النعم وخالق الأرض والسماوات، فإن الإنسان لا ينفك في أي لحظة من لحظات حياته عن حاجته إلى مولاه والركون إلى جنبه وطلب العون منه.. وبقدر ما يعى الإنسان هذه الحقيقة جيدا، بقدر ما تكون معيشته مع الله دائما؛ في حله وترحاله، غدوه ورواحه، صلواته وخلواته، أعماله وتعاملاته، وهكذا..


لكنه مأمور في الوقت ذاته بأن يأخذ بالأسباب، وهذا هو المعنى الحقيقى للتوكل على الله كما جاء في حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم): "لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا".. والمقصد هو أننا لو كنا بصدد مشكلة ما، فعلينا ونحن نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء وطلب العون منه، أن نحاول في الوقت ذاته أن نلتمس بأنفسنا طريقا إلى الحل، فإن السماء -كما يقال- لا تمطر ذهبا ولا فضة...

غير أننا أحيانا ما تواجهنا مشكلة وتعيينا الحيل، فلا نجد إلا التسليم واللجوء إلى الله تعالى.. وقد كانت مشكلة يوسف (عليه السلام) وهو في السجن من هذا النوع الأخير، أي لا ينفع معها أخذ بالأسباب.. إذ قال لأحد صاحبيه في السجن - تفسيرا لرؤياه - إنه سوف يخرج من السجن ليعود إلى وظيفته الأولى، وهى تقديم الخمر للملك، لذا أوصاه بأن يذكره عند الملك (اذكرنى عند ربك)، أي أخبره بأمرى لعله يرفع الظلم عنى ويخلصنى مما أنا فيه، لكن الساقى بعد خروجه وتمتعه بالحرية، نسى ذلك تماما (فأنساه الشيطان ذكر ربه).. وكانت النتيجة، أن لبث يوسف في السجن ٧ سنين..

قال بعض المفسرين: لبث في السجن بضع سنين، بسبب اعتماده على المخلوق والوثوق به، وكان أولى به أن يرفع حاجته إلى الخالق جل وعلا، فهو الذي لا ينسى ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، فضلا عن أنه القادر وحده على تفريج كربه وتبديد حزنه وإزالة همه.. ولما أذن المولى تعالى بالفرج، رأى الملك في منامه رؤيا عجيبة وغريبة (وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات)..

ولأنه احتار في تفسيرها، فقد لجأ لوجهاء القوم ومستشاريه (يا أيها الملأ أفتونى في رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون)، أي أخبرونى عن تفسير هذه الرؤيا أن كنتم تعرفون مغزاها ومعناها.. فماذا كان جوابهم؟ (قالوا أضغاث أحلام)، أي أحلام كاذبة، كما قال الضحاك.. ثم قالوا ليس لدينا علم على الإطلاق بالرؤى والمنامات (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)..

ويبدو أن ساقى الملك وهو يقدم الشراب لهم، سمع الحوار الدائر بينهم، فتذكر -ساعتئذ- يوسف وعلمه ومعرفته بتأويل الرؤى والأحلام (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) أي بعد فترة طويلة، أنا أدلكم على من يفسره لكم (أنا أنبئكم بتأويله)..
(وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية