رئيس التحرير
عصام كامل

القهر


القهر في اللغة العربية يعنى الاحتقار والتسلط بالظلم، وفي معناه الاجتماعى ما يذكره الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه "الدولة والمجتمع.. جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربى المعاصر": "القهر هو فعل من أفعال العنف المادى المصروف لغاية الإخضاع - السياسي، الديني، الاجتماعي - وهو لذلك يتوسل بوسائل القوة القمعية دون وازع أخلاقى أو إنساني، يتلازم معنى القهر في هذه الحال مع معنى العدوان المادى والمعنوى على من يقع عليه فعل ذلك القهر، لأنه ممارسة تنال من الحقوق المادية والمعنوية للناس -من حرياتهم وأمنهم- بدعوى تطبيق الواجب أو تطبيق القانون، يرتبط فعل القهر بهذا المعنى بالقوة، بما هي قدرة على ممارسة السيطرة، وبما هي قدرة تمتلك أدوات تلك السيطرة".


انتهى كلام الدكتور عبد الإله بلقزيز، ويظل المعنى طارحا نفسه على المجتمعات العربية التي تعانى من ويلات القهر ومفهومه، ومحاولة ربطه من جانب السلطة بفكرة الواجب وتنفيذ القانون، وقد عاشت الأمة العربية ولا تزال تعيش قرونا من القهر السياسي والاجتماعي والديني، وذلك كله له مبررات سلطوية هشة وسطحية وغير مبررة إلا من وجهة نظر الحاكم الذي ينفرد بالقرار ويفرضه على الناس بأدوات القهر المبالغ فيه.

ولكن لماذا تلجأ الدولة إلى القهر؟
الإجابة تأتى في نفس الكتاب للدكتور بلقزيز "حين تلجأ الدولة إلى ممارسة هذا النحو من سلطة القهر، مثلما هو حاصل في أكثر البلاد العربية، فهي تفصح عن أزمة الشرعية، وتكشف عن مقدار ما تعانيه من غياب المشروعية السياسية للسلطة.

إن ممارسة القهر تعبير عن عجز فادح في القوة لدى السلطة والدولة، وليس تعبيرا عن القوة أو عن فائض في القوة لديها كما يٌعتقد. الدولة القوية المطمئنة إلى قوتها في الداخل لا تلجأ إلى ممارسة القوة العمياء، أي القهر، لأنها تخاف من المجتمع، ولا تخشى على نفسها من حراكه السياسي، وما ذلك الشعور منها بعدم الخوف لإفراط في الثقة بقوتها، أو بقدرة تلك القوة على ممارسة ردع داخلى، وإنما لثقتها بأنها تتمتع بالشرعية وبالمشروعية، وبأنها دولة لجميع مواطنيها المتساوين أمامها وأمام قوانينها".

هذا هو السبب الحقيقي الذي يفرض على الدولة ممارسة القهر.. عندما تغيب مشروعيتها يكون القهر هو البديل السلطوى الذي تمارسه، ويتم ذلك تحت شعارات الحق والقانون والواجب وشعارات أخرى براقة، لا الشعب مقتنع بها، ولا هي مبنية على أساس قانوني أو أخلاقي، ولعل الأمثلة كثيرة في مجتمعاتنا العربية، وتكاد لا تخلو دولة عربية من ممارسة هذا النوع من القوة القمعية غير الأخلاقية لفرض واقع ديني واجتماعي، وربما جغرافى على الجماهير.

ولعل ما ذكره العالمان الجليلان الدكتور خيري عيسى والدكتور بطرس غالي في كتابهما "المدخل إلى علم السياسة" من نماذج للسلطة السياسية منذ الخليقة وحتى اليوم، وتطور هذه الأنظمة وفق تطور المجتمعات، يؤكد من جديد أن نظرية الحاكم الإله لم تغب عن منطقتنا العربية، ولكن بأشكال عصرية، فالحاكم لدينا يرى ما لا نرى، ويعرف ما لا نعرف، ويعلم ما لا نعلم، وهو وفقا لهويته صاحب التصرف الوحيد الذي يجب على المجتمعات أن تجيش قواها لتنفيذ ما يعرف وما يعلم وما يرى دون نقاش أو جدال.

كان الرئيس السادات يتحدث عن أنياب الديمقراطية، تلك الأنياب التي كان يقصدها ليس لها تفسير إلا القمع، وجاء مبارك ليقول آخر ما قاله "خليهم يتسلوا " ولم تكن تلك التسلية إلا عبثا في مواجهة القمع بصورته الجديدة.. على المعارضة أن تتسلي وليس أمام السلطة إلا ممارسة القمع الذي أودى بنظامه إلى تسلية كبرى يقضيها مبارك الآن مع لعبة الطاولة أو لعبة المعاشات.

أيضا لم يختلف الدكتور محمد مرسي كثيرا عن سابقيه في ممارسة القهر والقمع، وفق أدوات دولته التي اعتمدت على أن شعبه هو شعب الجماعة، ومن دونهم رعاع لابد وأن يهمشوا ويقصوا، ولا تكون لشكاواهم آذان تسمع أو عيون ترى.. سقط مرسي وسقط نموذج القهر الذي تبناه بعد عام واحد من اعتماد أسسه وأدواته وطريقته في ممارسة القهر ضد الشعب الذي يعانى من ويلات الحاكم الإله، والحاكم الأوحد، وصاحب العلم الأوفر، والفيلسوف والمفكر والقائد والملهم.

وفي الحالة المصرية تكون المواجهة من نوع خاص، كما ورد في كتاب الراحل رجب البنا "المصريون في المرآة" فإذا أردت أن تعرف حجم الغضب المصري عليك أن تطالع شكاوى الناس للأضرحة والصالحين والرهبان، وعليك أيضا أن تراقب حجم نفاق السلطة فإن زادت فذلك يعنى أنهم يحتجون بطريقتهم الخاصة التي جربوها مرارا وتكرارا، على أن التنكيت واحد من أدوات المصري في مواجهة القهر والظلم الواقع عليه.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالانحراف ومخالفة السلوك القويم، والخروج على القانون واحد من أدوات المصرى في مواجهة الظلم، أضف إلى ذلك فكرة الصبر المصري الطويل، والهجرة إلى الله، أو إلى الخارج في مراكب تغرق به في البحار، على أن خيار الثورة ليس متروكا كما يتصور البعض، لأنه واحد من مفردات المصريين في مواجهة القهر والظلم واستلاب الحقوق واحتقار الناس، ويبقى خيار آخر متأصل في الشخصية المصرية هو رفض الانتماء القومى والارتماء في حضن الانتماء القبلى.

وبنظرة سريعة على كافة مظاهر المصريين لمواجهة القمع نستطيع أن نعرف حجم الاحتجاج الشعبى الذي نعيشه في كافة المراحل!
الجريدة الرسمية