رئيس التحرير
عصام كامل

دولة السيسي وطابونة المحافظين


قبل أن يغلق الشهر بابه على عبارة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي أعلن فيها أننا في دولة ولسنا في طابونة، لايزال الجدل دائرا: هل نحن فعلا في دولة أم نعيش عصر الطابونة؟ وما الفرق بين الدولة والطابونة أولا ؟ وهل ما فعله المحافظون والوزراء تنفيذا لتعليمات الرئيس يصل إلى ما يمكن أن نسميه وباطمئنان "تصرف دولة" وليس "صاحب طابونة".. أظن أن سياحة في المعانى تكشف لنا ماهو أبعد من الطابونة وأعمق من الدولة.


الدولة في تعريفها الأبسط بعيدا عن التعريفات السياسية التي لا أتصور أن واحدا منها ينطبق على مصر.. الدولة هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطا على مساحة جغرافية معينة ويحكمهم نظام سياسي، من المفترض أنهم ارتضوه أو شاركوا في وضعه، وبالتالى فإن عناصر الدولة هي (أرض- ناس- حكومة) والحكومة هي أداة الدولة في ممارسة القمع الشرعى لمواجهة الفوضي، وتسيير أمور الناس.

أما الطابونة فهى مفرد طابون أو طوابين، والطابون هو المكان الذي تُطبن فيه النيران أي تدفن حتى لا تنطفئ، وهو الفرن، والفرن مساحة جغرافية يمارس عليها عدد من البشر نشاطا هو العجن والخبز، ويحكمهم نظام يضعه صاحب الطابونة، وبطريقة أو بأخرى شاركوا في وضعه، وأصبح لديهم دستور حاكم، وهو بالطبع دستور مطاط يمكن لصاحب الطابونة أن يتجاهل بعض مواده إذا ما احتاج لذلك.

إذن الفارق بين الطابونة والدولة ليس كبيرا في منطقتنا العربية، بل إن الميزة تميل أكثر إلى الطابونة، حيث يحرص صاحبها على تحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب العاملين بها، ليحقق لنفسه مكاسب أكبر، في حين أن الدولة في المفهوم العربى يحقق فيها الحاكم وزمرته ورفاقه وأصدقاؤه ما يمكن أن يتعارض مع مصالح أعضاء الجمعية العمومية للدولة، وهو ما ينطبق على حالات كثيرة، ليس من بينها مصر!!

نعود إلى تحذير الرئيس وإعلانه أننا نعيش في دولة وليس طابونة، وهو إعلان بالمناسبة أثلج صدور العامة والخاصة، حيث عبرت بلادهم من طابونة إلى شبه دولة، والآن هي تعيش مرحلة الانتقال إلى الدولة، وشيئا فشيء سنتعرف على ملامح دولتنا، وما إذا كانت تنتمى إلى النموذج الليبرالى الذي يعتبر الدولة حكما محايدا بين المصالح والجماعات، أما أننا سنعود فجأة إلى النموذج الماركسى الذي يعتبر الدولة أداة للقمع الطبقى.

الذي حدث من بعض المحافظين هو نصب بكل ما تحمل الكلمة من معني، والنصاب هي صيغة مبالغة من “نصب”، والنصاب هو من ينصب نفسه لعمل لم يطلب منه، والنصاب هو المخادع والمحتال، والمعانى الثلاثة تنطبق على عدد غير قليل من المحافظين المتورطين في النصب، فالتكليف الصادر لهم هو منع التعدى على أرض الدولة، أو مواجهة مغتصبى أرض الدولة، على أن تتم هذه المواجهة وفق مفهوم الدولة وليس الطابونة.

الذي حدث أن بعضهم نصب نفسه للقيام بعمل لم يطلب منه، فاعتدى على منشآت ومزروعات وبيوت وعشش وقرى، وفق مفهوم الطابونة الذي حذر منه السيسي، ثم إن بعضهم خدع الرئاسة بالإعلان عن تحرير أرض الدولة، وهو يعلم أنه اغتصب حقا من الناس، وجار عليهم على طريقة أنها طابونة، بل وأكثر ظلما من طابونة، يديرها صاحب مصلحة في تحقيق المصلحة، وفريق منهم مارس ما لا يمكن لصاحب الطابونة ممارسته، فطالت بلدوزراته ما لا يجوز أن تطاله يد الهدم والتخريب.

المشاهد التي نرويها اختزالا واختصارا لما حدث ويحدث الآن في مصر، حيث تسير الأمور في طريق أضيق بكثير من أفق صاحب الطابونة... خراب زرعته بلدوزرات الطابونة، ومدراء الطابونة، وكذابى الطابونة.. وجولة يسيرة على ما حدث تؤكد المعنى الحقيقى للطابونة، وتهرب بعيدا عن مغزى ومفهوم ووظيفة الدولة التي يعيش سكانها على خمسة عشر مليون فدان، من جملة مائتى وأربعين مليون فدان بالتمام والكمال.

على أن مساحة الدولة الحقيقية ليس بما تملك من أرض، وإنما بما يملك الناس من وطنهم، فالدولة التي يعيش سكانها على خمسة بالمائة فقط من مساحتها، ليس منطقيا أن تطاردهم فيما يسعون إليه وفق آليات هي من قامت بوضعها، وأولها وضع اليد الذي حددت مفهومه قوانين الدولة وليس قوانين الغاب أو الطابونة، والأرض لا قيمة لها إلا بما يمارس عليها من نشاط، فمن زرع أرضا فهى له، وأهلا وسهلا به معمرا وبانيا وصاحب حق، وهو ما ينطبق على المشروع العملاق الذي وضعه العالم الجليل الدكتور مصطفى البرادعى، الذي رأى من خلاله أن يتملك الناس أرض بلادهم، ليصبحوا مواطنين أسوياء وأصحاب حق في بلادهم.

هناك وفى عمق الجنوب المصرى على حدودنا مع الشقيقة السودان، يعيش أناس لم يروا من الدولة إلا البلدوزر..عاشوا مهمشين بلا أية رعاية، ابتنوا لأنفسهم عششا تحميهم من حر لا يطيقه المقيمون في تكييفات الحكومة، وتقيهم ويلات رياح شتاء عاتية لا تعرف الرحمة، فلم يكن من السيد محافظ البحر الأحمر سوى أن هاجمهم فجرا ببلدوزرات، وهم العدد اليسير الذي لا ناقة لديه ولا جمل إلا عشة استكثرتها الدولة عليهم، فتحولت بالنسبة لهم إلى طابونة، يديرها محافظ لايعرف المعنى الحقيقى للدولة.

قبل أن تصل الدولة إلى دمياط الجديدة، ومنذ ستين عاما، وعندما لم يجد الناس دولة تبنى لهم بيوتا، استطاعوا بجهودهم أن ينشئوا قرية الصيادين.. عاشوا فيها على الهامش، سلمتها أجيال لأجيال، وارتضوا من الدنيا أن يعيشوا على الأطراف، حفظت لهم أعراضهم وشرفهم سنوات تلو سنوات، فلم يكن من السيد محافظ دمياط إلا أن هاجمهم بآليات جعلت بيوتهم والتراب سواء، دون جريرة ارتكبوها..أليسوا مواطنين قاموا بما لم تقم به الدولة تجاههم.. أليسوا شعبا لم يجد إلا أن يأوى نفسه بنفسه مادامت غابت الدولة ؟!!

في محافظة البحيرة استطاع الشباب وبجهود ذاتية أن ينشئوا لهم مركزا يمارسون فيه الرياضة بعيدا عن رياضة التغييب الدينى لجماعة نشأت وترعرعت في هذه المحافظة، حتى تمكنت منها، فلم يكن من السيد محافظ البحيرة إلا أن خطط لهجوم مباغت على مركزهم بدعوى أنه أنشئ على أرض الدولة، وذلك على اعتبار أنهم أجانب محتلون وغاصبون لأرض الدولة، ويجب نسف مركزهم بالبلدوزرات.

في محافظة الدقهلية فوجئ رئيس جامعة المنصورة باتصال هاتفى من السيد المحافظ، يخبره بأنه سيقوم بإزالة تعديات جامعة المنصورة على ثمانين فدانا، هي في الأساس جزء من المزرعة النموذجية للجامعة، وذلك بدعوى أن الجامعة احتلت واغتصبت واعتدت على أملاك الدولة، وذلك يقينا لأن المحافظ يرى أن محراب العلم الحكومى هو في الأساس كائن مغتصب للأرض، يجب إزالته بناء على تعليمات الرئيس.. هكذا تحول المحافظ إلى صاحب طابونة، وأصبحت الجامعة كيانا محتلا للأرض!!

في إحدى القرى وقفت القوات تساندها قوات لمواجهة السكان الغلابة، لأنهم ابتنوا بيوتا من الطين، يحتمون بها من ويلات الدنيا.. تعلق الطفل الصغير بقدمى ضابط الشرطة الذي هزه أن يرى حجم قواته غير متناسب مع جريمة أم ابتنت لنفسها وولدها بيتا من طين فرفض تنفيذ قرار الإزالة، وغادر غير نادم على إنسانيته.. على نيل بنها خالف أحد المواطنين القواعد، وابتنى برجا كبيرا احتفلت القوات بتفجيره، رغم أن الرجل تبرع به للدولة.. فضلت القوات تفجيره وتحويله إلى كومة تراب بدلا من استغلاله والاستفادة به..إنها نزعة الطابونة وليست قواعد الدولة.

أما الزراعات فحدث ولا حرج.. كان الرئيس واضحا فيما قال، غير أن التنفيذ كان غامضا فيما فعل.. في بر مصر يتحدث الناس عن الخراب والدمار..صادروا ماترونه مخالفا إلى أن يثبت أنه مخالف، فإن ثبت العكس فالحق لأصحابه يعود.

مشكلة مصر ليست في عشرات وآلاف الأفدنة التي سعى الناس لإعمارها أو زراعتها، وإنما آفتنا الكبرى في أن تبقى الأرض خرابا يسكنها الفراغ.. أن يحاول الشعب سد الفراغ الذي تركته الدولة التي لم تبن، ولم تزرع له، فحاول أن يبنى ويزرع ويتملك جزءا منها.. وضع اليد على أرض الدولة بقصد التعمير أمر محمود، ووضع له القانون قواعد حاسمة، أما الهدم الذي حدث ويحدث، فإنه استبدال للناس بالفراغ الموحش.. آلاف السنين والأرض كما هي لا قيمة لها.. أصبح لها قيمة عندما تصدى الشعب لتقاعس الدولة، ومارس ما لم تمارسه.. إن نظرة واعية لما يحدث تفرض علينا أن نخرج الناس من الوادى الضيق لا أن نطاردهم ليبقوا في حظيرة الفئران التي تكاد تنفجر!!!
الجريدة الرسمية