رئيس التحرير
عصام كامل

على مائدة الرئيس


كان الموعد في الثامنة مساءً بمطعم فينسنتس الشهير بالعاصمة اللاتفية ريجا.. تحت بناية كبيرة نزلنا ثماني درجات من السلم لنصبح داخل إحدى قاعات الطعام التي خصصت لاستقبال الرئيس وضيوفه.. وصلنا نحن الضيوف في انتظار موكب الرئيس وحرسه ومقدمته.. كل شيء كان دقيقًا للغاية.. واحد من أهم وأشهر شيفات العالم يشرف بنفسه على أدق التفاصيل غير أن المكان خارج المطعم وداخله لم يكن يوحى بضيف كبير.. ربما للتمويه!!


لم نسمع أصواتا لموكب رئاسي ضخم ولم توضع سجادة حمراء ليمضي عليها ولم نرَ عددًا من الرجال يقتحمون المطعم تأمينًا للرجل.. جاء الرئيس مترجلًا.. بسيطًا وبلا مساعدين.. ألقى التحية.. قدم نفسه بكارت شخصي.. الاسم فالديس زاتليرس.. رئيس جمهورية لاتفيا في الفترة من ٢٠٠٧ - ٢٠١١م.. أخذ موقعه على المائدة وبدأنا حوارًا ممتعًا مع الرجل الذي عبر ببلاده من أعتى أزمة اقتصادية تعرضت لها وخرج بسلام وبدولة يشار إليها بالبنان بين الدول رغم مساحتها التي لا تتعدى ٦٥ ألف كيلو متر وعدد سكان يزيد قليلا على المليونين.

من سيرة ذاتية ليست متوفرة باللغة العربية حول مواقفه ربما ترى وبوضوح أنه شخصية مؤثرة.. عنيد.. يحدد أهدافه جيدا.. مغامر.. يعرف كيف يخاطب الناس ويؤمن أن الصدق مع الجماهير طريقه لتحقيق نجاحات على الأرض.

تحدث الرئيس عن زيارتين مختلفتين لمصر أولاهما عندما التقى مبارك وكان لديه فسحة من الوقت وحظى بجولة في النيل ورأى الصحارى تحيط بالنهر فأدرك أن شعبًا أنتج هذه الحضارة من وسط الصحراء شعب عظيم وقادر على النهوض والقيام مرة أخرى والمرة الثانية كانت في يناير الماضي، وزار فيها القاهرة القديمة والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، وقال: كنت أريد أن أعرف ماذا حدث وماذا يحدث؟ وأضاف: عظيم أن تلتقي الرؤساء وتتعرف على ثقافات مختلفة وتفهم ما يدور حولك.

والرئيس زاتليرس منتخب من البرلمان ورغم ذلك فقد خاض معركة شرسة ضد البرلمان.. معركة انتهت بقرار رئاسي بحل البرلمان بعد أن أيقن أن البرلمان معطل لخروج البلاد من أزمتها.. تبدأ فصول المعركة، عندما عرض رئيس الوزراء تقريرًا مفصلًا عن الأزمة الاقتصادية التي تتعرض لها لاتفيا لدرجة عدم القدرة على الإيفاء بالتزامات الدولة أمام أحد البنوك الأوروبية، حيث يحل موعد القسط خلال أيام والدولة غير قادرة على السداد.

أصدر الرئيس تعليماته للبرلمان بتحديد المهام وسرعة الإنجاز واستمر في عمله يواصل الليل بالنهار وخلال أيام كان قد أنجز ما كان يحتاج إلى شهور للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لتفي بلاده بالتزاماتها وفي الموعد المحدد، ولكن معاركه لم تنته مع البرلمان رغم تحذيرات أوروبية ومخاوف من تداعيات قرار الحل إلا أنه اتخذ القرار وكانت الجماهير تقف مساندة له في كل ما قرره رغم أن معظم هذه القرارات كان مؤلما.

رفض الرئيس اللاتفي تحرير عملة بلاده وقال «الأسهل أن يوافق البنك الدولى على تحرير عملة بلادك والأصعب أن تسير في طريق آخر وأنا اخترت الطريق الأصعب حماية لشعبنا من تداعيات التحرير.. اتخذنا خطوات مهمة نحو التقشف الحكومي الذي بدأته من مؤسسة الرئاسة وصولا إلى مرتبات صغار الموظفين.. خفضنا الرواتب واتخذنا كل الإجراءات لوقف نزيف المال والإنفاق غير المبرر وكانت نتائج التقشف كبيرة جدا وتداعيات الأزمة أقل بكثير من فكرة تعويم العملة الوطنية».

ثلاث عبارات موحية للغاية قالها الرئيس.. عندما سألناه: لماذا لم تستمر في الحكم دورة أخرى؟.. قال بهدوء: السياسة فرصة وحيدة إن اقتنصتها فلا تكررها وإن فاتتك فلا تصنعها، فالأهم أن تترك تاريخا لا تخجل منه.. وعندما سألناه عن تحركاته منفردا في الشوارع قال: رغم مرور السنوات مازلت مشهورا وكثير من الناس يصافحونني في الطرقات وأظن أن هذا من أعظم إنجازاتي، وعندما سألناه عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأثره على تفكك الاتحاد قال: الاتحاد الأوروبي واحد من أعظم الإنجازات البشرية.. لقد عشنا قرونا من الحروب والتخريب والدمار وها نحن نعيش الآن تجربة هي الأفضل في تاريخنا.

يقاطعنا شيف الملوك والرؤساء مارتينش ريتينش وهو يتعرف علينا ثم ينظر مداعبا الرئيس بقوله: يبدو أنني رأيتك من قبل يا سيدي؟.. يضج الجميع بالضحك ويتبادل الرئيس والشيف حوارا ممتعا يبدو منه أنهما صديقان ربما كان الأول ماهرا في مطبخ السياسة، بينما الثاني لا يزال صيته يتعالى بين ملوك أوروبا ورؤسائها في مطبخ آخر يخلو من الصراع ويعتمد على القدرة على المزج والتماثل واكتشاف أسرار المذاق.

يستعيد الرئيس بريق عينيه وهو يتحدث عن السنوات الصعبة التي عاشتها بلاده.. قرر تخفيض راتبه ٣٥٪ ثم قرر تخفيض رواتب جميع موظفي الدولة بنفس النسبة.. قرر صرف ٥٠ يورو شهريا لكل فقير فقط ليبقى على قيد الحياة.. عاش الناس تجربة قاسية خاصة الطبقة الأعرض ومحدودي الدخل الذين يتحملون دوما عبء استنهاض بلادهم.. الفقراء فقط هم الذين يتحملون مرارة هذه التجارب.. والفقراء هم وحدهم من تحملوا تبعات الأزمات في كل أنحاء العالم.. هذا ما قاله الرئيس!!

خرجت بلاده من أزمة طاحنة وانضمت سريعا إلى قطار النمو في الاتحاد الأوروبي، وأصبحت صاحبة واحدة من أهم التجارب الإنسانية في مواجهة الأزمة بحلول محلية رغم السير في اتجاه البنك الدولى على أن أهم قرار اتخذه الرئيس اللاتفي في ذلك الوقت هو حل البرلمان في منطقة تدرك جيدا قيمة وقدر الديمقراطية ولا ترى سبيلا للتداول السلمى للسلطة إلا بهذه الطريقة.. تخلص الرئيس من المكلمة وقفز ببلاده إلى آفاق أكثر رحابة!!

ودعنا الرئيس وخرج كما جاء وحيدا.. يمضي تحت الأمطار مستمتعا بحرية وحياة المواطن بعيدا عن الكاميرات والحراسات والبروتوكولات.. يعيش كما تعيش كل الناس.. مارتينش ريتينش الشيف العالمي يودعنا بآيس كريم من نوع خاص، كما فعل من قبل مع الملكة إليزابيث وإمبراطور اليابان والرئيس الصيني وجورج بوش الابن وغيرهم من الرؤساء والملوك الذين يفدون إلى مطعمه كما جئنا إليه وأصبحنا نحن أيضا من مشاهير العالم بعد أن أكلنا طعام مارتينيش!!
الجريدة الرسمية