رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (١٢)


في الأوضاع العادية، وفي ظل دولة يحترم فيها القانون، إذا ارتكب إنسان جريمة ما، فإنه يتم التحقيق معه، ثم يقدم إلى المحاكمة، وإذا ثبتت عليه التهمة صدر عليه الحكم الذي يتناسب والجريمة المرتكبة وفقا للقانون.. أما في الأوضاع غير العادية أو الاستثنائية، وفي ظل دولة لا يحترم فيها القانون، فإن السياق هنا يختلف، حيث يؤخذ البريء ويترك الجاني، خاصة إذا كانت له صلة بأحد من علية القوم.. ويبدو أن الزمن الذي كان يعيش فيه يوسف (عليه السلام) كان مماثلا لهذه الحالة الثانية..


فلا نعلم إذا كان قد تم التحقيق مع يوسف فيما نسبته إليه امرأة العزيز، أم لا؟ وهل تم الاستماع إليه أو إلى الشهود، أم لا؟ لكن، من الواضح أن امرأة عزيز مصر كان لها تأثيرها القوى داخل السلطة الحاكمة آنذاك، فقد صدر الأمر بسجن يوسف لفترة يتوارى فيها عن الأنظار حتى ينسى الناس الأمر برمته، يقول تعالى: «ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ»..

ولا شك أن دخول السجن وما يترتب عليه من فرض قيود على الإنسان من حيث حرية الحركة، وعدم الالتقاء بأقربائه ومحبيه، والنظام الصارم في النوم والاستيقاظ، ونوعية الطعام والشراب، وحتى ارتداء ملابس معينة، ناهينا عن التعرض للتعذيب والإهانة، كل ذلك يعتبر في حد ذاته محنة وابتلاء شديدين.. يقول تعالى: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَان»، أي اتفق أن يدخل معه السجن في نفس الوقت متهمان من خدم الملك، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه..

وقد رأى الخباز والساقى من يوسف حسن الخلق، والعلم، والحكمة، وحسن التدبير، ما جعلهما يثقان به ويأتمنانه على أسرارهما، بل يلجآن إليه فيما يعنى لهما من أمور «قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا»، قال الساقى إنى رأيت في المنام أنى أعصر عنبا يتحول مع الوقت إلى خمر كى أسقى منه الملك، «وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ»، أي وقال الخباز: إنى رأيت في منامى أنى أحمل على رأسى آنية بها خبز، وتأتى الطيور لتأكل منه، ثم قالا: «نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»، أي أخبرنا بتفسير ما رأينا لأننا نراك من الذين يجيدون تفسير الرؤى والمنامات..

فماذا كان رد يوسف؟ حاول أن يؤكد لهما ما أتاه الله تعالى من علم وإخبار بالغيب، لذا قال «لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ»، أي أنى أخبركما بأى طعام قبل أن يأتيكما، من حيث ماهيته وطبيعته وكيفيته، وذلك توطئة - لدعوتها إلى الإيمان.. يقول البيضاوي: «أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هي طريقة الأنبياء في الهداية والإرشاد، فقدم ما يكون معجزة له من الإخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير»..

لذا، لفت يوسف انتباه السجينين إلى أنه لا يقول شيئا من عنده، وإنما «ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي»، أي ليس هذا بكهانة ولا تنجيم، لكنه إلهام ووحى من الله تعالى.. ثم قال: «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ»، أي نبه إلى أصلين عظيمين من أركان الإيمان؛ هما: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية