رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (١١)


من المهم أن نتوقف طويلا أمام ما قاله المولى تعالى في كتابه الكريم (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، والكبد يعنى المشقة والعناء، ويقال: لقي فلان في هذا الأمر كبدا، أي مشقة وعناء.. ولا يوجد إنسان على وجه البسيطة منذ آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلا وهو يعانى من مشقة ما في مرحلة من حياته.. وفى الحديث: "أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل". 


والمتأمل في سير الأنبياء، يجد هذه القضية على أوضح وأجلى ما يكون.. انظر -على سبيل المثال- إلى ألوان المحن والابتلاءات الكثيرة التي ابتلى بها أبو الأنبياء إبراهيم، وأيوب، ويونس، وغيرهم من الأنبياء والرسل الكرام (عليهم السلام)، تجد عجبا. 

ومن هنا كان الاعتصام بحبل الله تعالى، واللجوء إليه، والركون إلى جنبه، أمورا مطلوبة وضرورية لحماية النفس البشرية وإمدادها بزاد من القوة والأمل، خاصة في أوقات الشدة.. وكلما كانت المحن والابتلاءات شديدة، كلما كانت حاجة الإنسان إلى عون الله أعظم.. في مقال اليوم نلقى ضوءا على المحنة الرابعة التي تعرض لها العبد الصالح يوسف (عليه السلام)، حينما قالت امرأة العزيز أمام النسوة (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين)، قال القرطبى في تفسيره: عاودته المراودة بمحضر منهن، وهتكت جلباب الحياء، وتوعدت بالسجن إن لم يفعل، ولم تعد تخشى لوما ومقالا، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سرا بينها وبينه. 

فكان جوابه (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، أي لجأ إلى ربه وجعل يناجيه في تضرع، مفضلا فقدان الحرية، وهى أثمن شيء في حياة الإنسان، على اقتراف الكبيرة وإغضاب الله تعالى، وهو ما يدل على قمة الصدق والعفاف والتقى والورع.. والملاحظ أن يوسف أسند الفعل إليهن على اعتبار أنهن مشتركات في الدعوة؛ سواء بالتصريح أو التلويح.. ثم قال (وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)، أي وإن لم تدفع عنى يارب شرهن ومكرهن وتعصمنى منهن، فقد أنزلق إلى فعل القبيح... وما كان الله ليتركه في محنته وحيدا ضعيفا، خاصة بعد أن لجأ إليه. 

وهكذا رب العزة دائما وأبدا.. ألم يقل سبحانه للحبيب المصطفى (وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون)، وألم يقل أيضا: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).. هي دعوة إذن لكل مظلوم، حائر، لا حول له ولا قوة إلا بالله، أن يلح في الدعاء وأن يضرع إليه، وهو واثق من استجابة الله له (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم)، أي نجاه الله تعالى وعصمه..

وهكذا اجتاز يوسف محنته الرابعة بعون الله ورحمته، ذلك لأن (رحمة الله قريب من المحسنين).. وما أن انجلت غمة هذه المحنة، إلا وبدأت مظاهر المحنة الخامسة وهى محنة دخول السجن (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).. إذ لم يكن يستعصي على امرأة العزيز -القريبة من السلطة- أن تستغل مكانتها في الضغط والاحتيال على من بيدهم إصدار الأوامر بالسجن، وذلك بتقديم معلومات ملفقة وأدلة كاذبة..(وللحديث بقية إن شاء الله)
الجريدة الرسمية