رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

في معية يوسف (٨)


لم يذكر لنا القرآن الكريم شيئًا عن طبيعة الفترة التي قضاها يوسف في بيت عزيز مصر إلى أن بلغ أشده.. ماذا كان يفعل، وهل كان العزيز يجالسه أثناء وجوده في البيت، أو كان يصحبه معه في جولاته الخارجية؟ وهل كان يخرج إلى الخلاء لمزاولة نوع من الرياضة أو ركوب الخيل وما شابه؟ وهل كان يقضى وقته وحيدًا يتأمل في هذا الكون، أو كان يقضيه مع نظراء له؟ لقد ترك لنا القرآن الفرصة كاملة كى نفكر ونتخيل، لكن على أي حال، من الواضح أن يوسف لقي عناية واهتمامًا خاصًا، سواء من عزيز مصر أو من زوجته أو منهما معًا، وكأنما كان يعيش مع أسرته الأصلية، فضلا عن العناية الكبرى التي كان يلقاها من المولى تعالى، وهو ما جعله يتمتع بسلام نفسى داخلى، فلا عقد نفسية، ولا اختلالات في ثباته الانفعالي، وهكذا..


وعندما بلغ يوسف منتهى شدته وقوته، أي استكمل عقله وتم خلقه، وهبه الله حكمة وعلمًا.. يقول تعالى: "يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا" (البقرة: ٢٦٩)، ويقول أيضًا: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" (المجادلة: ١١).. وهذه وتلك مزية كبرى يكرم الله بها عباده الصادقين.. في مؤلفه القيم (تفسير القرآن العظيم، ج٢)، يقول ابن كثير في قوله تعالى (آتيناه حكما وعلما) يعنى النبوة، أنه حباه بها بين أولئك الأقوام.. والذي حدث أن امرأة العزيز كانت ترى يوسف في غدوه ورواحه، دخوله وخروجه، طعامه وشرابه، يقظته ومنامه، ترقبه وترصد حركته، فهو شخصية غير عادية؛ في التفكير، وتناول الأمور، وطرح الآراء، وخلال المناقشة، وهكذا.. أحبته حبا شديدا ملك عليها قلبها وفؤادها، وذلك لجماله وحسنه وبهائه، فضلا عن سمو أخلاقه وبعده عن السفاسف وارتباطه الدائم بمعالى الأمور...

على الجانب الآخر، ربما كان زوجها العزيز مشغولا عنها، مهموما بمسئولياته الكبرى خارج البيت، فهل كان ذلك أحد أسباب افتتانها بيوسف؟ المهم أنها بعد طول تفكير وتردد، قررت في لحظة أن تراوده عن نفسه..

وكانت هذه هي المحنة الثالثة في حياة يوسف، لكنها محنة من نوع مختلف.. وراودته من المراودة، أي الطلب برفق ولين، وهى مأخوذة من راد ويرود إذا جاء وذهب، ومنه الرائد لطلب الكلأ.. وغلقت الأبواب حتى لا يراها أو يشعر بها أحد من الخدم، وربما لكى لا يكون هناك منفذ للفرار منها.. وطلبت منه مضاجعتها بقولها (هيت) بمعنى تعال وهلم إلى..

هل كانت تتوقع أن يستجيب لدعوتها، باعتبار أنها صاحبة المكانة العالية في المجتمع، كما أنها صاحبة الفضل عليه في كثير من الأمور، منذ أن كان صبيًا؟ الذي حدث أن يوسف امتنع عن ذلك أشد الامتناع، و(قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى)، أي أن زوجك أكرم وفادتى وأحسن إلى، فلا أقابله بالفاحشة في أهله (إنه لا يفلح الظالمون).. ولقد همت به، أي همت بمخالطته عن عزم وتصميم، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة، وهو ما اضطره إلى الهرب بعيدًا عنها، وكان أسبق منها إلى الباب، لكنها وهى تجرى وراءه جذبته من ردائه، فتمزق من الخلف.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
Advertisements
الجريدة الرسمية