رئيس التحرير
عصام كامل

لمحة من الذكريات مع الراحل فريد عبد الخالق


سمعت عنه قبل أن أراه.. فقد كان الأستاذ فريد عبد الخالق اسما له وزنه ومكانته كرفيق للشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، ومنذ سنة ١٩٥٤، وكنت طالبا بالمرحلة الثانوية، كان الناس يتحادثون همسا عن فظائع السجن الحربى وما يتعرض له المسجونون السياسيون به من تعذيب غير آدمى.


وبعد ذلك بنحو خمسة عشر عاما، وبالتحديد يوم ٢٣ مايو سنة ١٩٧٠ سئلت فى التحقيق الذى جرى معى بسجن القلعة ضمن ما سئلت، عن مدى علاقتى بالأستاذ فريد عبد الخالق، ولما أقسمت للمحققين أننى لم ألتق به قط، ولكننى فقط سمعت عنه، لم يصدقونى بل انهالوا على بالسباب وأودعونى إحدى الزنازين بمعتقل القلعة، وكنت خارجا لتوى من مستشفى الدكتور شهدى عقب جراحة أجريت لى، وفى القلعة منعت بالطبع من الزيارات بل من تلقى الدواء الضرورى أثناء فترة النقاهة.

مكثت فى تلك الزنزانة ٤٨ يوما، وفى يوم الجمعة ٩ يوليو ١٩٧٠ تم ترحيلى إلى معتقل طرة السياسى، وكان عمرى يقترب من الثلاثين، وفى هذا المعتقل الذى كان يضم نحو ألف معتقل من جماعة الإخوان، وعددا قليلا جدا من الشيوعيين ومن الوفديين أو من المعارضين عموما لنظام عبد الناصر، شعرت كما لو كان قد تم الإفراج عنى، فقد كانت تلك المرة الأولى بعد مرور نحو شهر ونصف أغادر فيها الزنزانة الانفرادية وألتقى بالبشر وأرى ضوء الشمس وأتنفس الهواء.

كان المعتقل فى ذلك الوقت يضم أسماء لها وزنها، وكنت أثق أنه لن تطول مدة إقامتى لأننى لم أكن أنتمى لأى تنظيم أو حزب سياسى.

وكان من بين الأسماء التى ضمها المعتقل فى ذلك الوقت الأساتذة حسن الهضيبى مرشد الإخوان، وابنه مأمون الهضيبى الذى صار مرشدا للإخوان فيما بعد، وكان هناك أيضا الكثيرون ممن شاركوا فى حرب فلسطين سنة ١٩٤٨، ومن الوفديين كان هناك عبد الفتاح باشا حسن وزير الشئون الاجتماعية قبل حركة يوليو، ومصطفى ناجى، كما كان هناك من أقطاب الإخوان الأستاذ فريد عبد الخالق الذى تعرفت عليه داخل أسوار المعتقل.

كان فن الرسم هو الذى عرفنى على الأستاذ فريد عبد الخالق، فقد كان رحمه الله، فاهما وممارسا له وشغوفا به، كما كان يعشق فنون الشعر كشاعر كبير، والخطابة التى لم يكن بالطبع يمارسها داخل الأسوار.

كنت أرسم وجوه المعتقلين بالفحم أو بالقلم الرصاص أو بالألوان المائية، وفى إحدى المرات شاهدنى الأستاذ فريد وأنا أرسم لوحة بألوان الزيت نقلا عن صورة من لوحة الفنان الفرنسى «رينوار» أسماها «البنتان الصغيرتان»، فتوقف الأستاذ فريد بجانبى وأبدى إعجابه باللوحة التى لم تكتمل بعد، واكتشفت من خلال حديثه مدى ثقافته الفنية ومعلوماته الغزيرة بفن الرسم وتاريخه وأسراره.

قويت علاقتى بالأستاذ فريد، وكنا تقريبا لا نفترق طوال شهور إلا وقت المغرب عند سماع صفارة دخول العنابر، فيدخل كل منا عنبره، وكان المعتقل يضم أربعة عنابر، يضم كل منها ما يقارب مائتى معتقل بالإضافة إلى مبنى صغير للشيوعيين ومستشفى صغير خاص بالمعتقل، كان ينزل به فى تلك الفترة مرشد الإخوان حسن الهضيبى، وكان عمره يقترب من الثمانين، وأشهد أننى رأيت الأستاذ فريد يبكى بالدموع مرتين؛ المرة الأولى فى جلسة من جلسات الرسم عندما أسمعنى قصيدة له مؤثرة جدا كتبها فى رثاء والدته رحمها الله، وتأثر بشدة عندما تذكر أنها لقيت ربها أثناء اعتقاله، ولم يسمح له بالطبع بحضور جنازتها أو إلقاء نظرة أخيرة عليها.

أما المرة الثانية.. التى رأيته فيها يبكى بشدة؛ فقد كانت قبيل ظهر يوم الأول من أكتوبر سنة ١٩٧٠، فقد سمحوا للمعتقلين فى ذلك اليوم بالجلوس على "كراسى مصفوفة" فى ساحة واسعة أمام جهاز للتليفزيون «أبيض وأسود»، فلم يكن التليفزيون الملون قد دخل البلاد بعد، وكنت أجلس على كرسى خلف الأستاذ فريد مباشرة، وكان المشاهدون بالمئات، أما المناسبة فكانت مشاهدة مراسم جنازة جمال عبد الناصر على الهواء، وكان قد توفى قبل ثلاثة أيام فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠.

أعترف أننى لم أدرك وقتئذ لماذا بكى الأستاذ فريد عبد الخالق بشدة تأثرا بمشهد جنازة عبد الناصر، ولم أحدثه فى ذلك أبدا فقد كانت العادة ألا نتكلم فى السياسة داخل المعتقل إلا فيما ندر، لكننى عرفت فيما بعد السبب من متابعتى للحلقات الخمس عشرة التى أذاعتها قناة الجزيرة ضمن برنامج "شاهد على العصر" فى حوار مطول مع المذيع أحمد منصور سنة ٢٠٠٤، وأشار فيها الأستاذ فريد إلى مدى الصداقة التى جمعته بعبد الناصر فى بداية حركة يوليو، حيث كان كل منهما ينادى الآخر باسمه مجردا بدون ألقاب، وفى إحدى الحلقات «وقد سجلتها كلها بالفيديو» سأله أحمد منصور:

- متى انتهت تلك الصداقة الحميمة مع عبد الناصر؟..
أجاب الأستاذ فريد عبد الخالق: عندما قال لى عبد الناصر فى إحدى مناقشاتنا: «أنا عاوز يا فريد ييجى يوم أضغط على زر فينام الشعب المصرى كله، وأضغط على زر فيستيقظ»، فأجابه الأستاذ فريد فورا: هذه هى الديكتاتورية بعينها، وأنت فى مسار ونحن فى مسار، بعدها اعتقل عبد الناصر صديقه فريد عبد الخالق أكثر من مرة، فمكث فى سجن عبد الناصر ما يقرب من ٨ سنوات بخلاف فترات سجنه قبل سنة ١٩٥٢.

والأغرب عندما سأله أحمد منصور: كيف يصادق أبناؤك أبناء عبد الناصر بعد كل ما جرى لك فى عهده، فيجيب إجابة تحمل روح التسامح والسمو: «عبد الناصر حسابه عند ربه ولسنا نحن الذين نحاسبه، أما أولادى فلهم حرية اختيار الأصدقاء».

رحم الله الأستاذ فريد عبد الخالق؛ رمز التسامح والوسطية والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
الجريدة الرسمية