رئيس التحرير
عصام كامل

تجربة تطوير الخطاب الديني للكنيسة الكاثوليكية


بل والمصطلح الأكثر فاعلية هو تطوير الفكر الديني وليس الفكر فقط للكنيسة الكاثوليكية التي بدأت عندما واجهت التطورات السياسية كالثورة الفرنسية والتغيرات الاقتصادية والعلمية كالثورة الصناعية إلى التحديات الاجتماعية التي صاحبت المتغيرات السابقة بما شكل بيئة خصبة لانتشار المذهب الإصلاحي البروتستانتي إلى موجة فرض العلمانية في دول أوروبا وظهور موجات الإلحاد والتحرر بما دفع الكنيسة للتفاعل والتطور الفكري مع المجتمع.. وإلا كان البديل هو الاندثار وحققت الكنيسة التفاعل والاستمرار كقوة مؤثرة نابعة من عطائها الثقافي والحضاري المتراكم لتسهم في النهضة الحضارية الأوروبية بما يتكيف مع فلسفة الدين ذاته والابتعاد عن التفسيرات الصلبة وكان التطوير المحتوم في تفعيل المساواة وحقوق المواطن وتفعيل المشاركة السياسية.


لعل العصور المظلمة في أوروبا والفراغ السياسي والعلمي أتاحت الفرصة لمحاكم التفتيش المتطرفة في إسبانيا وصكوك الغفران وتدخل الدين في العلم إلى ارتباط الكنيسة بالسلطة السياسية وبرجال الإقطاع بما سبب تمرد مجتمعي فخرجت مفاهيم العلمانية كإفراز طبيعي للتطور الإنساني التي شكلت في البداية تحديا ولكن استطاعت الكنيسة احتواء المتغيرات وبلا شك فهناك ارتباط بين فصل الدولة عن الدين وفصل سلطة الدولة عن السوق الحرة (الليبرالية) بما حقق نهضة حضارية متكاملة الجوانب.

أن جوهر «حركة التنوير الأوروبي» هو الثقة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقة.. وهي فلسفة نثرت بذورها في أوروبا جماعة من الدارسين يسمونها (المدرسة الرشدية) نسبة إلى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (توفي 1198) وكان هذا الفكر العربي هو وقود الحضارة الغربية ورفضها العرب.

فلسفة العلمانية تهدف إلى عزل الدولة عن سلطة الكنيسة وليس عن الدين، ولا تعني الإلحاد كما يشاع وكانت تعني الاستمرارية لحركة التنوير والنهضة (التي بدأها مارتن لوثر في أوائل القرن 16) وكانت تعني استخدام العقل وعدم القبول بقدسية كل ما تقوم به الكنيسة وأعمال العقل بما دفع الكنيسة على مواكبة أعمال العقل والمنطق والتسليم برغبة المجتمع في التطور العلمي والاقتصادي والسياسي وفي القرن العشرين برزت الأنظمة العلمانية اللادينية التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية ـ اللينينية والتي اعتبرت أن «الدين هو أفيون الشعوب» وهي شكل آخر من العلمانية لها خلفيات سياسية وهذه الثقافة الإلحادية مثلت عدوا لكل الأديان.

وفِي كل الدول من فرنسا إلى إنجلترا وأمريكا لم يتطور الفكر الديني في المذاهب المختلفة إلا تحت ضغط المتغيرات وأهمها العلمانية والتطور الحضاري والفكري ولمواكبته.. أي أن المؤسسات الدينية لا تتحرك من ذاتها وإنما لمواجهة المتغيرات لأنها أكثر المؤسسات صلابة وذلك ينبع من قدسية رجال الدين في المجتمعات الكلاسيكية ومن الملاحظ أن تطور الفكر الديني لا يتم جديا إلا بتفعيل الديمقراطية السياسية وأبرز مثال هو فشل الأنظمة العلمانية في تونس والعراق في بناء ثقافة علمانية لها جذور تستطيع إجبار الفكر الديني على التطور وإنما أنتجت هذه الدول فيما بعد تنظيمات دينية متطرفة.

استطاعت الكنيسة طرح (العقلانية الدينية) في تجديد الفكر الديني والانطلاق من العقل لفهم النصوص الصلبة مثل تفسير آية ( من لطمك على خدك الأيمن أدر له الأيسر) وآية (أَعْط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) وذلك بقبول المساواة الاجتماعية واحترام المرجعية الشعبية في الحكم والتشريع ورغبة المجتمع في التطور من خلال المؤسسات التشريعية المنتخبة وبالتالي عاد اندماج الكنيسة داخل الحراك الحضاري للمجتمع ولعل الكنيسة لعبت دورا سياسيا لضرورة قصوى غير معلنة كقوة ناعمة كان لها الفضل في إسقاط الاتحاد السوفيتي ولا تنفصل الديانة المسيحية عن الهوية الثقافية لدول أوروبا في مفهوم أشمل للعلمانية.

إن الكليات اللاهوتية الكاثوليكية أصبحت تدرس الفلسفات المختلفة ومنها فلسفة الأديان الأخرى إلى الفلسفات الإلحادية لاستيعاب محدداتها قبل الرغبة في النقد بما شكل تطورا في فكر رجل الدين الذي أصبح يعتمد على الأدوات العلمية ويؤمن بالعلمانية الرشيدة لمواجهة متغيرات العولمة التي تؤثر فى الشباب تحديدا.

أصبحت الكنيسة الكاثوليكية أكبر مؤسسة دينية علمية في العالم وفي ٢٠٠٨ حصل الكاهن ميشال هيللر على جائزة تيمبلتون وقدرها مليون وثمانمائة ألف دولار عن أبحاثه الكونية ووجهها لإنشاء مركز بحثي علمي ويعد المرصد التلسكوبي الموجود في الفاتيكان اليوم هو الأضخم في العالم يليه مرصد جامعة أيروزونا بالولايات المتحدة.

في زيارة بابا الفاتيكان لمصر ولقائه مع البابا تواضروس وفي فارقة تاريخية أثبت الاثنان تفاعلهما نحو التطور والاستنارة الفكرية في الاعتراف بسر المعمودية في سابقة تاريخية تفتح الباب نحو التقارب المذهبي الذي كان مستحيلا وبما يهيئ الكنيسة الأرثوذكسية للاستفادة من خبرات نظيرتها وتجاربها بما يمنح الدولة المصرية دفعة سياسية بشكل غير مباشر اعتمادا على القوة الناعمة للكنيسة الكاثوليكية... ولعل بعض المؤرخين حللوا انفصال الكنيستين بأسباب سياسية تاريخية في المقام الأول.
الجريدة الرسمية