رئيس التحرير
عصام كامل

يبكى مرتين على فراق اللغة العربية.. الأب أنستاس الكرملى قبل أن يودع الحياة

الأب أنستاس الكرملى
الأب أنستاس الكرملى

فى صباح الثلاثاء السابع من يناير ١٩٤٧ أغمض العلامة اللغوى الأب أنستاس مارى الكرملى إغماضته الأخيرة، ورقد على سرير الموت فى المتسشفى الملكى بالعراق الرقدة الأبدية.

هكذا نُعِى إلىّ شيخى المحترم بالتليفون من بغداد، فالتاعت نفسى، وحز الألم فى قلبى.
ولم يكن مبعث أساى نعى مفاجئ، فالأب الأستاذ يعانى المرض من سنة وتزيد، وقد وافاه الأجل فى الثانية والثمانين من عمره ولكنى تصورت عيونه الدامعة وهو يجود بأنفاسه، تحرقا على خدمة اللغة العربية التى احتسب لها أكثر من ستين حجة من حياته!

وأذكر أننى زرته مرة فى معتكفه بدير الآباء الكرمليين قبل أربع سنوات، وفى صومعته حيث هو غارق بين الكتب والدفاتر فلم أبصره فى موضعه من كرسيه، بل انبعث إلى أذنى أنين من داخل الحجرة الضيقة، فتجاوزت الباب، فرأيته مضطجعا فى سريره الخشبى الخشن يلهث، فبادرته بالسؤال عن حاله، فأجابنى بصوت متهدج تقطعه الزفرات: «إنى مريض أشكو عللا وشيخوخة تتهدم» فهونت عليه ودعوت له بالشفاء العاجل، فقاطعنى بقوله فى نفس خرج من أعماق قلبه:
- لا يخيفنى الموت يا ولدى، ولكنى متألم إذ ستحول المنية دون خدمتى للغة العربية التى أفنيت عمرى فى درسها وبحثها، وبكى بكاء مرا.

وقبل عامين وبعض عام كنت أزوره فى غرفته المتواضعة، وهو جالس على كرسيه مثقلا بالسنين فكان مما قاله فى حديثه: «كلما قرأت نعيا فى الصحف لإنسان غبطته على الموت للتخلص من أوصاب الجسم الفانى» وتنهد ورفع يده إلى واجهة خزانة كتبه وأشار إلى معجمه العربى الضخم الذى اشتغل بتأليفه أربعين سنة وصاح: «ولكن لا أريد أن أفارق الحياة قبل إنجاز كتابى «المساعد»، واغرورقت عيناه بالدموع.
وهكذا فنى هذا الباحث المُجِدّ فى حب لغة قومه والتوفر على العناية بها ورفع شأنها ولمّا يشبع من الأعوام الطويلة التى قضاها مخلصا فى العمل لها، فيموت وفى نفسه حنين لمزيد من خدمتها كان الأب أنستاس شخصية لها طابعها الخاص بين العلماء والباحثين، كما اشتهر ببدوات فى معيشته اليومية فما عرف قبله أن رجلا انقطع للتنقيب عن الألفاظ، والغوص فى المعاجم ودواوين اللغة إلى هذه الأعماق، وقد أسعفه تضلعه فى لغات كثيرة شرقية وأعجمية وأوربية إلى التفرد بهذه الخصائص كما أن ثوبه الرهبانى ونكه فى العمر الكرملى بعيدا عن مشاغل الأسرة والزوج والولد مكنته من أن يصرف خمس سنوات مثلا فى ملاحقة أصول كلمة، وأن يكتب عن حرف عربى واحد عشرين صفحة من الحجم الواسع.
إلا أن هذه الحياة البسيطة لم تسلم من مفارقة عجيبة فقد كان غفر الله له آية فى التقتير يجمع خيوط رزم الكتب والمجلات التى ترد عليه بالعشرات ويكتب مقالاته على جذاذات الرسائل وظروفها مما يبعث إليه به، ويعض على الفلس بالنواجذ وقد زاد ما جمعه على ما أنفقه فى شراء المخطوطات والكتب على بضعة آلاف من الدنانير أوقفها للدير قبيل وفاته مع خزانة كتبه الحافلة بآلاف المجلدات بينها طائفة خطية نادرة.
خلق هذا الراهب جبارا فى هيكله وهيئته ونشاطه، وهو يرجع فى أصله إلى لبنان فتجاليده من الأجسام الجبلية القوية، ومع هذا فما كان أبسطه وصفى سريرته فى اجتماعه بالآخرين، كثير التعجب، سريع التصديق، عظيم الدهشة، وهذه متأتية من انقطاعه عن الناس وعدم تمرسه بالحياة، إذا استحسن شيئا قهقه بضحكة عالية وصفق بكلتا يديه الفهمضتين وهدر بصوته هدير الضراغم، ولما فطر عليه من الغيرة على لغة الضاد ما أسرع ما ينصب ساخطا لاعنا من تسقط منه غلطة فى اللغة فيقسو فى الحكم عليه سواء باللسان أو القلم، وهكذا كانت الحرب سجالا بينه وبين جماعة من إعلام اللغويين فى مقدمتهم المشايخ إبراهيم اليازجى، وسعيد الشرنوبى، وعبد الله البستانى.

ومما يؤسف له أن معظم أبحاثه ودراساته أودعها مقالات فى المجلات بينها ما أنفق عليه السنوات العديدة أفيصح لى أن ألفت نظر اللجنة الثقافية فى جامعة الدول العربية إلى العناية بطبع مجاميع من هذه البحوث شرعة للدراسين بعد أن اهتمت بأمر خزانة كتبه وتواليفه الخطية وراجعت حكومة العراق فى هذا الشأن؟!

هذه كلمة اكتبها على هامش وفاة هذا الجهبذ المجاهد، رحم الله قسا وهب حياته للغة القرآن.
وكتب هذه الكلمات الكاتب العراقى روفائيل بطى فى مجلة الاثنين والدنيا العدد 658 - 20 يناير 1947
الجريدة الرسمية