رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

من شبه دولة إلى لا دولة


عانت مصر لعشرات السنين من الفساد السياسي والإداري نتيجة الاستخفاف بالدستور والقوانين، وهم الركيزة الأساسية لقيام الدول، فالدستور وكما يسمى هو النظام الأساسي للدولة ينظم العلاقة بين مؤسساتها ويوزع السلطة عليها، حتى تكون متوازنة فلا تملك مؤسسة بعينها سلطة مطلقة تتحول إلى مفسدة مطلقة تدمر الدولة، وكذلك يفصل بين تلك السلطات وينظم التعامل بينها والرقابة المتبادلة، وهى الضمانة الوحيدة لبقاء الدولة، ورغم كل ما شهدته مصر من فساد منذ أكثر من ستين عامًا فقد حرص رجال الدولة في تلك الحقبة على الحفاظ على الحد الأدنى من ماهية الدولة، وهى شعارات دولة المؤسسات والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وغيرها من مبادئ نص عليها الدستور.


ورغم وضوح سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية طوال تلك الحقبة، والذي وصل إلى تكوين أحزاب حاكمة لمساندة الرئيس وهو في السلطة إلا أن السلطة التنفيذية كانت حريصة على شكل دولة المؤسسات ولو بتمثيليات برلمانية لمحاسبة وزير من آن لآخر، أو السماح بدخول عدد محدود من المعارضين للبرلمان لاستكمال الصورة الديمقراطية، ويرجع تاريخ بدء هيمنة الحكومة على البرلمان إلى عام 1953 فقبل 1952 كان البرلمان هو الذي يشكل الحكومة وحتى في حالة إصرار الملك على تعيين حكومة أقلية فقد كان عمر تلك الحكومات وأداؤها محكومًا برضاء البرلمان عنها واستمرار ثقته بها.

في عام 1953 وبالتحديد في السادس والعشرين من يناير أي بعد أسبوع واحد من قرار حل جميع الأحزاب السياسية تم الإعلان عن إنشاء ما سمى بهيئة التحرير، والتي أعلن جمال عبد الناصر رحمه الله أنها لن تكون حزبًا ككل الأحزاب ولا أداة للحكم، وإنما أداة لتنظيم قوى الشعب. وورثت هيئة التحرير معظم ما تم مصادرته من الأحزاب وتم تشكيل مجلس أعلى للحزب الحاكم الجديد برئاسة جمال عبد الناصر نفسه، وعضوية فتحي رضوان وصلاح سالم وكمال الدين حسين وأنور السادات ونور الدين طراف وأحمد الشرباصي وأحمد حسن الباقوري وأحمد عبد الله طعيمة.

وكان ذلك بداية الدولة الشمولية التي يسيطر تنظيم واحد على كل نواحي الحياة فيها، وتخضع له كافة السلطات واستمرت هذه الفكرة منذ ذلك الحين وإن تغير الاسم من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي سنة 1957 ثم الاتحاد الاشتراكي عام 1962، الذي تم النص عليه في دستور 1964 وصارت عضويته إجبارية على كل من يرغب في ممارسة العمل العام، وتم إنشاء تنظيم داخله للأكثر ولاءً وهدفه إعادة إنتاج قيادات بديلة بنفس الفكر وعلى درجة عالية من الولاء وسمي التنظيم الطليعي.

في عام 1974 خرج السادات رحمه الله بفكرة جديدة لإنهاء هيمنة الحرس القديم في الاتحاد الاشتراكي وهى إنشاء 3 منابر تمثل اليمين والوسط واليسار، وأن لا تكون العضوية إجبارية مع السماح بالعضويات الجماعية للنقابات! وبمجرد أن ألمح السادات أن أحد المنابر سيسمى حزب مصر، ويرأسه رئيس الوزراء حينها ممدوح سالم، حتى هرول كل محبي السلطة إليه تاركين المنبرين الآخرين اللذين تحولا إلى حزب الأحرار برئاسة مصطفى كامل مراد وحزب التجمع برئاسة خالد محيي الدين، وكلاهما من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار لتبدأ حقبة التعددية الشكلية.

ولم يكمل حزب مصر العامين من العمر حتى أعلن السادات تأسيس حزب برئاسته هو الحزب الوطني الديمقراطي فانتقل جميع أعضاء حزب مصر إلى الحزب الحاكم الجديد! واستمر الحزب الوطني في السيطرة على كل أجهزة الدولة وأصبحت عضويته حتمية -وإن لم ينص عليها في قانون– لكل من يرغب في العمل العام كي تتعامل معه مؤسسات الدولة.

وبعد ثورة يناير 2011 تم حل الحزب الوطني وتأسيس عشرات الأحزاب، وولد أمل جديد في إيجاد حياة سياسية وديمقراطية حقيقية وبناء دولة مدنية دستورية حديثة، تقوم على تداول السلطة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون وتفعيل دور الأجهزة الرقابية، وتم النص على ذلك في الدستور رغم أنه أتاح لرئيس الجمهورية تعيين حكومة من غير حزب الأغلبية، بشرط الحصول على ثقة البرلمان.

إلا هذه الآمال ذهبت أدراج الرياح مع صدور قانون ممارسة الحقوق السياسية الذي جعل نظام الانتخابات مزيجًا بين انتخاب بالقائمة المطلقة والفردي وساوى بين الأحزاب والمستقلين فعادت فكرة الائتلاف الحاكم الداعم للسلطة وانتهت عمليًا الحياة السياسية في مصر، وتحولت كل الأحزاب إلى مجرد صور تجميلية في خلفية صورة الائتلاف الحاكم، حتى إن جميع الأحزاب وبلا أدنى استثناء توقفت عن مجرد الحديث في قضايا محورية قومية كقضية تيران وصنافير وقضية القوانين المهمة للدولة كقانون السلطة القضائية الجديد.

جاء قانون السلطة القضائية الجديد ليطلق رصاصة الرحمة على أساس الدولة المصرية، فرغم أن الدستور ينص على "سيادة القانون أساس الحكم في الدولة وتخضع الدولة لسيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته وحيدته كضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات" (مادة 94).

و"السلطة القضائية مستقلة" (مادة 184) و"تقوم كل جهة أو هيئة قضائية على شئونها" (مادة 185) إلا أن السلطة ممثلة في أزرعها البرلمانية قررت القضاء للسلطة التنفيذية والقضاء نهائيًا على استقلال القضاء النسبي، الذي كان يمكن قضاة من إصدار أحكام تتعارض مع رغبة السلطة التنفيذية في التغول على كل مناحي الحياة ضاربة بالدستور وفكرة الدولة نفسها عرض الحائط، وينص هذا القانون على أن رئيس الجمهورية سيعين مجلس القضاء الأعلى بأكملة بإعطائه سلطة اختيار وتعيين كل رؤساء الهيئات القضائية، بعد أن كانت تلك الهيئات مستقلة وتقوم على شئونها كما ينص الدستور.

وأصدر هذا البرلمان المعيب هذا القانون غير الدستوري، على الرغم من توصيات مجلس الدولة بعدم صدوره لأنه يخالف صراحة مبادئ قيام الدولة وهى الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، ويتيح للسلطة التنفيذية بسط نفوذها باختيارها من تفضلهم لرئاسة الهيئات القضائية وتشكيل مجلس القضاء الأعلى، الذي من المفترض أن يقوم على شئون القضاء.

ويربط البعض طريقة وتوقيت صدور هذا القانون الباطل دستوريًا بصدور حكم المحكمة الإدارية العليا برفض طعن الحكومة على حكم بطلان اتفاقية التنازل عن تيران وصنافير، وقد تضمن ذلك الحكم التاريخي ما أكد على سيادة مصر على الجزيرتين، وهو ما يخالف الموقف الذي يصر عليه رأس السلطة التنفيذية حتى بعد تلك الأحكام القضائية النهائية ضاربًا عرض الحائط بمبدأ سيادة القانون.

إن ما يحدث مؤخرًا من إصرار البرلمان على عدم احترام أحكام القضاء (بطلان عضوية أحد الأعضاء) وعدم احترام الدستور (مناقشة اتفاقية التنازل عن أرض صدر بشأنها حكم قضائي نهائي بأنها مصرية ولا يجوز مناقشة التنازل عنها) ثم إقرار قوانين فاسدة تدمر المجتمع وتخالف الدستور (مثل إعطاء الرئيس حق عزل رؤساء الأجهزة الرقابية) ثم إصدار قانون إنهاء استقلال القضاء وإخضاعه الكامل للسلطة التنفيذية، كل ذلك يظهر بما لا يدع مجالًا للشك أننا ننتقل بسرعة من مرحلة شبه الدولة إلى مرحلة السلطة المطلقة حيث لا دولة.
Advertisements
الجريدة الرسمية