رئيس التحرير
عصام كامل

التدريب الاستلزامي والإصلاح الاستقصادي


عندما قرأت لأول مرة في شهر يناير 2016 كلاما ثم قرارا من رئيس الوزراء حول ما تم تسميته التدريب الإلزامى للأطباء لم أكن متأكدا من الكلمة المقصودة هل هي الإلزامى من الإلزام أم الإزلامى من الزلومة! الحقيقة الإزلامى أقرب للتصور والقبول حيث لا يمنع الدستور من أن يلبس كل طبيب زلومة شبيهه لخرطوم الفيل مثلا أثناء التدريب، لكنه وبالتأكيد يمنع إلزام أي مواطن بعمل أي شيء إلا أن يكون إلزاما "لكل" المواطنين للقيام بخدمة عامة "لوقت محدد" ومقابل "أجر عادل" (مادة 12 من الدستور).


كما أنه لا يجوز أن يتم إلزام الأطباء دون غيرهم من العالمين بالدولة بشروط للترقى دون وجود مقابل مادى يتناسب مع مقدار الجهد والتكلفة لتحقيق هذه الشروط، وإلا كان ذلك الإلزام مخلا بمبدأ تكافؤ الفرص الذي ينص عليه الدستور أيضًا.

كذبت نفسى وأخذت أتصفح الإنترنت لمحاولة إيجاد أي سابقة أو تشابه في هذا الاسم مع أي دولة في العالم فلم أوفق، فالهيئات التي تهدف لضبط تدريب الأطباء تسمى هيئات التخصصات الطبية، حيث إن التخصص الطبى اختيارى وليس إلزاميا واستكمال مراحل التخصص المختلفة -هو الآخر- هو قرار اختيارى لكل طبيب.

وفى كل الأحوال فإن الإلزام في القانون هو ما يعاقب المواطن على تركه أو الإخلال به، ولا أتخيل أن من اخترع هذا التعبير المعيب يظن أنه سيعاقب الأطباء في حالة عدم رغبتهم في تخصص معين، أو اكتفائهم بقدر معين من هذا التخصص أو ذاك أو حتى عدم إكمال برنامج بدأه أحدهم، أو عدم التوفيق في الامتحان النهائى.

الخلاصة أن من كتب هذا الكلام وهو شخص مجهول بالنسبة لنا، ليس ملمًا بنظم ولا حتى مسميات الهيئات المختصة بهذا الشأن في دول العالم المختلفة، ولكنه من الواضح أنه شخص نافذ كلامه يسري دون نقاش حتى على الوزراء المختصين وداخل مجلس الوزراء!

لا خلاف على أن مصر تعانى فوضى عارمة في منظومة التعليم الطبى، وأن كل من لديه أدنى فكرة عن نظم التعليم الطبى في الدول المرجعية يعلم الشروط الأساسية لتنظيم التدريب والتخصص الطبى وهى:

1- امتحان موحد للترخيص للتأكد من أمان مستوى الخريج بالنسبة للمرضى خاصة مع اختلاف النظم والبرامج في كليات الطب المختلفة عامة وخاصة، وهو ما يتسبب في تباين كبير في مستوى الخريجين، ووجود تضارب للمصالح في منح الدرجات والتقديرات ويتم على أساس ترتيب هذا الامتحان توزيع وظائف التدريب بكل شفافية.

2- برنامج تدريبى واحد ومحدد وحقيقى على مستوى القطر في كل تخصص يؤهل إلى امتحان موحد لمنح درجة علمية إكلينيكية واحدة في كل تخصص.

3- تجديد دوري لترخيص مزاولة المهنة الهدف منه التأكد من استمرارية ممارسة المهنة بحد أدنى تحدده هيئة التخصصات في كل تخصص والإطلاع على المستجدات الطبية عن طريق التعليم الطبى المستمر.

كان وجود هيئة لضبط التدريب الطبى التخصصى حلما لكل من يسعى لإصلاح منظومة التعليم الطبى في مصر، لكنه بقراءة سريعة للائحة ما سمى هيئة التدريب الإلزامى ومقارنته بأى هيئة مماثلة مثل الكلية الملكية البريطانية مثلا يتحول الحلم إلى كابوس، حيث إن أكثر من نصف مجلس إدارتها لا يشترط أن يكون لديهم أي خبرة بالتعليم الطبى أو سابقة أعمال يعتد بها في نظم التدريب التخصصى للأطباء، ثم نجد أن القوى الموجودة على الساحة قد توافقت لاستمرار كل منها في مناطق نفوذها بالجامعات المصرية، ودونا عن كل جامعات العالم ستستمر في منح الدرجات البحثية (الماجستير والدكتوراه) على أنها درجات إكلينيكية..

ووزارة الصحة الوزارة الوحيدة في العالم التي تمنح درجة إكلينيكية هي الزمالة وتبدأ كلية الطب العسكرية في منح درجات علمية في كل التخصصات ثم تضاف درجة جديدة مستحدثة وهى البورد المصرى إلى كل ذلك بدلا من أن تحل محل كل ذلك!

وهذا الأسبوع فوجئنا بتصريحات غريبة عن عمل امتحان دوري لتجديد الترخيص، وهو ما سأنتظر وجود خطاب رسمى به قبل أن أناقش هذا الكلام الغريب إن صح.

على الجانب الآخر يستمر الحديث الدعائى عن التأمين الصحى الاجتماعى الشامل، والذي يعانى مما تعانى منه كل القوانين الحالية وهى بالمناسبة قوانين جيدة لكنها تصنف في خانة القرارات السياسية أكثر منها قوانين وقرارات قابلة للتطبيق، في ظل عدم الجدية وربما تعمد الهروب من تقدير التكلفة الحقيقية للخدمة الصحية المطلوبة نظرا لرغبة الحكومة الاستمرار في خط الوعود السياسية بالمجانية لقطاع عريض من المجتمع دون أي استعداد لتخطى رقم محدد بمعرفة وزارة المالية.. والتي تجبر كل العاملين على مشروع القانون أن يدوروا في فلك هذا الرقم بغض النظر عما يحتاجه علاج أكثر من 90 مليون مواطن من كل الأمراض..

والنتيجة الحتمية ستكون البقاء في المربع رقم واحد الذي نرسو فيه منذ أكثر من خمسين عاما، وهى خانة القوانين الرائعة التي تفتقد إلى التمويل الكافى للتطبيق.

ويجرنا الحديث عن ماليات التأمين الصحى إلى مشكلة مصر الرئيسية وهى الفساد والذي يحتاج فعلا مجلسا أعلى لمكافحة الفساد يراجع كل القوانين والقرارات واللوائح الفاسدة التي تم إصدارها طوال عشرات السنين وأدت بنا إلى ما نحن فيه.. وعلى رأسه جداول الأجور الفاسدة التي تسمح بدخول تتعدى الملايين لعاملين بالدولة، لأنهم يجلسون على مكاتب وثيرة مكيفة، وتعطى الفتات لمن يعملون آناء الليل وأطراف النهار في أسوأ الظروف وتحت أكبر الضغوط وبأقل الإمكانيات ويتحملون أكبر المسئوليات.

حتى الآن لا يوجد إصلاح اقتصادى في ظل جداول الأجور المشوهة والنظام الضريبى الفاسد الذي يستهدف الأقل دخلا والقوانين واللوائح التي تسمح بهروب أصحاب الدخول الكبيرة من الحد الأقصى للأجر ومن الضرائب. الإصلاح قد لا يحتاج مزيدا من الأموال ولكن يحتاج مزيدا من العدالة إن كانت موجودة من الأصل.

إن الإصلاح الحقيقى ليس في خفض الدعم وزيادة الضرائب وتخفيض سعر العملة وهو ما يضغط بشدة على الطبقات الأقل دخلا وكأنهم المقصودون بدفع فاتورة تخلص الحكومة من هذه الأعباء خوفا من مواجهة مراكز القوى واللوبيات من أصحاب المصالح والدخول العالية.

الإصلاح الحقيقى لن يبدأ إلا بكسر الحلقة المفرغة من فساد منظومة الأجور، والتي هي السبب الرئيسى في كل ما تبعها من فساد نتيجة سعى العاملين بالدولة لسد احتياجاتهم الأساسية، وهو ما يفتح باب الفساد على مصراعيه.

-----------
وأخيرًا تم رفض طلب ورثة الشهيدة الدكتورة داليا محرز التي توفيت في سن السادسة والعشرين نتيجة إصابتها بعدوى الالتهاب السحائى باحتساب وفاتها كإصابة عمل وعن نفسى لم يصدمنى الخبر فوزارة الصحة طوال تاريخها لم تحتسب وفاة أي طبب أو ممرضة كإصابة عمل هربا من أن تكون سابقة للكثير من المطالبات.. وتتحجج بضرورة إيجاد علاقة مباشرة بين أحد المرضى والإصابة بالعدوى.. لكننا عقدنا العزم هذه المرة على كسر هذا الفساد، حيث إن واجب الوزارة في حالات الالتهاب السحائى هو الترصد بالبحث عن مصدر العدوى وأن مجرد عدم وجود مصدر للعدوى في المحيطين بالمريض يجعل السبب عدوى من العمل وأن عدم قيام الوزارة بالبحث في كل المرضى الذين تمت مناظرتهم خلال فترة الحضانة لمعرفة مصدر العدوى هو تقصير يقع على عاتق الوزارة ودليل على تعمدها التهرب من مسئوليتها تجاه الحقوق الأساسية للعاملين خاصة التأمين ضد إصابات العمل.
الجريدة الرسمية