رئيس التحرير
عصام كامل

راقصة الأدب وأدب الراقصة!


عندما تتجمد الأحداث، وتتوقف الحياة عن السريان، وتمضى الأيام متشابهة مملة لا جديد فيها، تصبح منى البرنس قضية إعلامية مهمة لا بد وأن تدوسها عجلة الطباعة، وتهضمها كاميرات المخرجين، وتلوكها ألسنة بائعي التوك شو في بلادنا، أما إذا كانت الأحداث تأكلها أحداث أكبر في كل لحظة نمضي فيها، وإذا كانت ماكينات الطباعة أقل استيعابا للحدث، والفضائيات تلهث وراءه فإن وجود منى البرنس على مائدة الإعلام يصبح خبلا!!


منى البرنس لمن لا يعرف هي أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة السويس، والتي تتحف طلابها بنشر فيديوهات رقص لسيادتها فوق سطح منزلها تارة، ومن غرفتها تارة، والبقية تأتي، كما أنه وللأمانة لم يسرق تليفونها المحمول لتسريب فيديوهاتها، حيث قامت حضرتها بنشر هذه الفيديوهات، لتدور معركة حامية الوطيس حول مشروعية ما فعلته أدبيًا وأخلاقيًا، حيث انقسم الناس إلى فرق وشيع.

ما أن أطلقت الست أول فيديوهاتها كراقصة على صفحتها الشخصية «فيس بوك»، إلا وانطلق الإعلام يجرى من خلفها ومن تحتها ومن وسطها ليناقش هل يجوز لأستاذة جامعية أن تعرض جزءا من حياتها الخاصة على فيس بوك؟ وهل ما تفعله يدخل في دائرة الحياة الخاصة، وإن كانت خاصة فمن المسئول عن طرحها على العامة؟ وهل يعد الاعتراض على فعلة الدكتورة الراقصة هو نوع من التخلف والتفكير الذكوري؟!!

ولأننا كنا قد انتهينا - بفضل الله- من وضع دستور وانتخاب رئيس، ومنّ الله علينا ببرلمان ولا مجلس العموم البريطاني، يناقش ما لم يجرؤ على مناقشته الكونجرس الأمريكي، وأضفنا إلى سجلاتنا عدة حكومات ترأسها عدد من الرموز التي لا تنسى، وتقلد فيها طوب الأرض وزارات لم نكن نحلم بأن تصل إلى العامة والسوقة والدهماء، كما وصلت بفضل ثورتين مباركتين، ولأننا أطلقنا عدة مشروعات قومية حظيت بنقاشات مجتمعية جعلتها نماذج تحتذى لمن أراد من بلاد أوروبا أن يتقدم ويتطور، أو من بلاد آسيا مثل اليابان التي تبنت النموذج المصري للخروج من تخلفها الصارخ!!

ولأن الشعب المصري يعاني تخمة ما بعدها تخمة، جراء حقبة الوفرة التي اجتاحت البلاد، ووصل بنا الحال إلى اللجوء لمخرجي السينما وفئات الكومبارس إلى وضع ممثلين يقومون بدور المتسولين في الشوارع، إمعانا في الإبقاء على قلوب المصريين برحمتها وتعاطفها مع المحتاجين الذين اندثروا، ولأن العوز انقرض، والحاجة تلاشت، والفقر لم يعد له مكان، ولأن السلع فسدت لأنها لا تجد من يأكلها، ولأننا اكتفينا من القمح، وألقينا ما فاض منا في البحر.

ولأن بلادنا تحررت من إفك الأمريكان وأصبحنا بفعل القوة نمارس دورنا العالمى بمعزل عن القوى الاستعمارية الكبرى، ولأننا أنقذنا سوريا من فوضاها، وزرعنا ليبيا بالحب والتسامح، وأعدنا إلى اليمن وجهه السعيد، وبنينا علاقات متينة مع إثيوبيا، وعاد السودان إلى حضنه الدافئ في مصر، وأصبحنا القوة الأعظم في أفريقيا، وأنقذنا الصومال من عثرته، وأعدنا لجامعة الدول العربية مجدها الذي لم يولد من الأصل.

ولأن شبابنا -والحمد لله- «مش ملاحق» على الوظائف التي يفجرها وزير القوى التي لم تكن «عاملة»، ولأن الاستثمار في بلادنا أصبح للرُكب، ساكنا في مساكن الفساد الذي كان قد وصل للترقوة، ولأن أهل الدلتا اقتنعوا أخيرا أن الأرض وهبها الله لنا للزرع، فهدموا بيوتهم، وأعادوها خصبة خضراء، ولأن الصحراء التي كانت الحكومة تطارد من يزرعها، لم تعد صحراء بفضل تسهيلات لجنة محلب ووزارة الزراعة.

ولأن الضرائب انخفضت ووصلت إلى أدنى مستوياتها، وتحول المصرى إلى كفيل يستقدم أبناء الدول العربية يشترى ويبيع فيهم كيف يشاء، ولأن «الأشية بقت معدن» ولم يعد لدينا أمية ثقافية، ولا أمية كمبيوتر، ولأن الأسعار كل يوم «في النازل» وأصبح السمك وجبة شعبية بديلا عن الفول، وأضحى اللحم فول هذا العصر، ولأننا وصلنا إلى مقربة من الكمال!

ولأن المصري كريم العنصرين، وأصبح لا يفرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين متدين وملحد، ولأننا قدمنا للإنسانية نموذجا للتعايش والتسامح، ولم يعد لدينا وزير أوقاف.. لأننا نعيش مجتمعا متجانسا بعيدا عن الشيخ والقسيس.. نعيش المساجد والكنائس في أخلاقنا.. نعيش في سيناء تحت شجر الزيتون، وأصبح الصعيد صعيدا عاليا غارقا في الخير!

لأننا فعلنا كل ذلك، فقد كان لزاما علينا أن ننشغل بقضية طارئة.. هي قضية أستاذة جامعية رقصت على سطح منزلها، أو في غرفة نومها.. كان لا بد للجماهير العطشى إلى قضية جادة أن تعرف على وجه الدقة هل منى البرنس نموذج يمكن تصديره؟! ولماذا لا.. ولدينا دينا نموذج صدرناه ونجحنا في تصديره لدول العالم المتعطشة للرقص البلدى.. كان لا بد أن نقارن بين دينا الحاصلة على ماجستير في الفلسفة وبين منى البرنس الراغبة في الحصول على شهادة دينا!!

وحتى لا يفقد أبناؤنا البوصلة، ويتوهون في الزحام، فإننا سنقول القول الفصل في القضية الشائكة، ووصولا إلى المراد وإمعانا في وضع حد لهذا التداخل الغريب والمدهش، بين الفلسفة والرقص، وبين الأدب الإنجليزي وقلة الأدب المصري بين المباح والمتاح.

وميزة دينا أنها «رقاصة» وعيب منى البرنس أنها «مدعية رقص».. الأولى محترفة، والثانية تتمسح في المهنة بلا خجل.. الأولى أضافت إلى تاريخ الرقص تاريخا، أما الثانية فقد أهانت الفن ونهشت لحمه عندما عرضت على صفحات التواصل الاجتماعي ما أسمته بالرقص، وهو على غير ذلك.. يا إخوانا القضية اللولبية والإشكالية العصية أن المهلبية ليست أرزا بلبن، وأن الطعمية أصلها فول وهذا في عرف الفلسفة يعنى غياب الشفافية، وفي عرف الأدب الإنجليزي أن نطالب بمحاكمة منى، ليس لأنها رقصت، ولكن لأنها ادعت الرقص!!
الجريدة الرسمية