رئيس التحرير
عصام كامل

انتبهوا أيها السادة


أفكر كثيرا هذه الأيام في مصير عشرات الآلاف من الأطباء الذين يعملون في مصر، وقد أصبح الحديث عن مشروع قانون التأمين الصحى وكأنه أمر واقع وإرادة سياسية لا يعطلها إلا التأكد من عدم وجود تكلفة كبيرة تتحملها وزارة المالية.


من يحمى حقوق الأطباء في مصر؟ سؤال يجول كثيرا بخاطرى كلما قرأت أو سمعت ما يصدر عمن يمثلون الرأى الرسمى لنقابة الأطباء، والذي ضمنوه لورقة بعنوان "التأمين الصحى الذي نريده؟"، وقعت في يدى بالمصادفة أثناء حضورى إحدى جلسات النقاش المجتمعى التي دعيت إليها بصفة شخصية، والتي لم تتضمن أي ملاحظة عن مستقبل الأطباء في النظام الجديد بقدر ما تكلمت عن الخصخصة وخفض الاشتراكات والمساهمات حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الأطباء!

سئمت من كثرة تكرار أسئلتى لأعضاء اللجنة وللمسئولين الذين يتحدثون عن نقلة نوعية، وتغطية علاج كل مواطن دون الإجابة على سؤال بسيط، فرغم تحديد مقدار الاشتراكات منذ أول نسخة قرأناها للقانون، وما سمعناه عن عمل دراسة أكتوارية ثم استدعاء مؤسسة عالمية لعمل دراسة جديدة مبنية على نفس الأرقام المضحكة، فالكشف ما بين جنيه وثلاثة جنيهات، ومريض الطوارئ يتكلف عشرين جنيها!

نسأل فنجد أن أحدا لا يعلم كم سيحصل الطبيب من أجر في النظام الجديد وكم ستحصل الممرضة والفنى والإدارى والعامل؟

باختصار هل سنستمر في التمثيلية الحالية تمثيلية أجر رمزى في مقابل عمل رمزى؟ كم سيحصل الطبيب مقابل الكشف على المريض في عيادته الخاصة عند التعاقد مع التأمين الصحى؟ ماذا سيكون مصير الأطباء إذا تم تفعيل نظام الرعاية الأساسية الذي يتولى علاج ما يقارب ثلاثة أرباع المرضى ليتبقى ربع المرضى فقط في حاجة للتحويل إلى المتخصصين.

ووسط هذه المخاطر من عدم حساب أجور عادلة للفريق الطبى تدخل ضمن حساب تكلفة الخدمة الصحية، أجور تسمح بتفرغ العاملين وتحميهم وتوفر لهم الحد المقبول من الحياة الآمنة لهم ولأسرهم، أجور تعاقدية تضمن تخفيف التغيرات الحتمية في النظام الصحى من زيادة الاحتياج لأطباء الأسرة والرعاية الأولية والتناقص الكبير في الاحتياج للأطباء المتخصصين ليتناسب عددهم مع نسبة المرضى التي تحتاج للعرض على متخصص.

ربما أحمل هذا الهم لأنى أمارس تخصص دقيق وأتخيل إحتمالية أن أعيش وأسرتى اعتمادا على راتبى بعد تطبيق التأمين الصحى الشامل والمتوقع من تناقص أعداد المرضى المحولين أو إجبارى على قبول سعر تعاقد متدن في الوقت الذي يختفى فيه العمل الاقتصادى أو الخاص.

علينا أن لا نخجل أن نناقش الأمر بواقعية وموضوعية ونسمى الأمور بمسمياتها، فالسياسيون من الواضح أنهم لا يعنيهم إلا الإعلان عن الإنجاز التاريخى بإقرار قانون التأمين الصحى الشامل، ووزارة المالية لا يعنيها إلا تخفيض الرقم المطلوب منها لأقل حد ممكن.

المفاجأة أن الأغلبية الحالية في مجلس نقابة الأطباء لا يهمها الا ملكية المؤسسات المقدمة للخدمة، وأن تكون الاشتراكات والمساهمات أقل ما يكون ويا حبذا لو كانت مجانية فالأطفال يجب أن لا يدفع عنهم ذويهم (الأطفال تحت ١٨ عاما يمثلون ما يقارب نصف تعداد السكان في مصر بينما تقل النسبة عن ٣٠٪‏ في معظم الدول المتقدمة)، وارباب المعاشات يجب أيضا أن تقل اشتراكاتهم ولا يدفعون مساهمات حتى لو تقاعدوا في سن الأربعين أو كانوا من أصحاب الملايين!، وكل من لا نعرف دخله لأن عمله غير مسجل لا يدفع حتى لو كان يجنى عشرات الآلاف من الجنيهات.. الركين والمتسول والنشال وغيرهم.

في النهاية كل المسيسين وأصحاب الأيديولوجيات يدفعوننا دفعا إلى إعادة إنتاج النظام الصحى الحالى: وهم مجانية الخدمات الصحية لغالبية المواطنين- استمرار التمثيلية الهزلية فأجر الممرضة بالرعاية المركزة جنيه في الساعة وأجر الطبيب جنيه ونصف والكل يهرب من مواجهة الواقع واضعا القناعات الأيديولوجية والأهداف السياسية قبل الاهتمام بإصلاح حقيقى للنظام الصحى يعالج أهم الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه.

وأقولها خالصة لوجه الله والوطن أنه دون التوقف عن التنظير السياسي والأيديولوجى وحل أهم مشكلات النظام الصحى وهى العامل البشرى وتصحيح المعادلة إلى أجر حقيقى مقابل عمل حقيقى وتفرغ كامل ثم حساب التكلفة الحقيقية للخدمة والمتضمنة أجور حقيقية وصيانة دائمة وإحلال وتحديث ومستهلكات مطابقة للمواصفات بالكميات المطلوبة دون ذلك فنحن في الطريق لإعادة نفس سيناريو إنشاء هيئة التأمين الصحى عام ١٩٦٤.

وإذا كانت دولة مثل فرنسا تنفق سنويا نحو ٩٠ مليار يورو أي نحو ١٨٠٠ مليار جنيه لعلاج أقل من ٦٥ مليون مواطن فكيف أصدق من يقول أن مصر يمكن أن تغطى ٩٠ مليونا، مواطن بـ ١٠٠ مليار فقط!

التأمين الصحى هو نظام تكافلى لتغطية تكلفة الخدمة الصحية الآدمية، وليس للدعاية السياسية أو الدعاوى الأيديولوجية للمجانية وضمان شيوع الملكية.
الجريدة الرسمية