رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

قصـــة روح

فيتو

كان يسحبنى بارتجافات مضطربة وكأنها خفقات لقلب موحش من شدة الصقيع.. حلم أو كابوس أو هواجس نوم.... لكننى في جفوتى كنت أستغيث وأنا أسمع أنينى وأنادى على الأهل الذين رحلوا وقد حجبتنى عنهم شبورة رمادية باردة وقد لف روحى ألم ثقيل مبهم.. يسحبنى ببطء، حين يهم بالرحيل.. يلسعنى كالثلج.. لسعات خاطفة فأهوى داخل عرقى البارد والساخن في آن واحد وتعتثرنى سلاسل من فولاذ تضغط على أحشائى ورحمى وكأننى في بداية المخاض.. 


أستغيث وحدى ودماء المشيمة تفر من رحمى بعد أن وئدنى فرارها.. لكننى جريت من لحدى حاملة برحمى كل ارتجافات الأرض وعصيانها وكأن أيدٍ حديدية لطائر مارد تعتصر أحشائى وتسحب دمائى الساخنة تاركة لى البرودة والألم واللوع، وتدفعنى أشباح تمرق سريعًا واحدة تلوى الأخرى ساخنة من ألمى فأترنح داخل الشبورة.. أبحث عنهم فأراهم بعيدًا كالسراب وأنادى بكل قوتى الباقية وقد ابتلعنى الفزع.. : يا.. يا..

يرتد لى صوتى المنهك ويرتد صحوى وقد تجمدت أطرافى وملأت دموعى وسادتى.

ظللت بفراشى.. تسحبني ذكراهم وروائحهم، وأثناء شرودى داهمتنى ذكرى أليمة من فرط حزنها خبأتها سنوات طويلة داخل روحى.. فكنت أصرخ بداخل غرفة بآخر الرواق بمستشفى الولادة وجاءت تلك الطبيبة وأنا في مخاضى لنجلى الصغير وهى تضحك من آلامى واستغاثاتى وعندما عنفتها.. تركتنى وحيدًا مع دمائى ورفضت أن تساعدنى وأعطتني ظهرها وقد مشت أمانى تميل بجسدها بتلذذ كامرأة لعوب ولم يسمع صراخى أحد سواها وأنا بالفراش وقد قيدوا قدمى وزراعى بقوائم من حديد ولا أذكر من ملامحها شيئًا سوى صليب تدلى فوق صدرها العارى وكان المسيح مصلوبًا فوقه يتألم من الغدر.


أفقدتنى تلك الطبيبة براءتى فكنت قبل تلك الحادثة لم أكن أعرف بأن الحياة يوجد بها كل تلك القسوة وذلك الكم الهائل من القبح.


ابتلعنى النوم من جديد.. وكنت أجرى وراءهم وهم في لهو عنى داخل حياتهم السرية وناديت وأنا أبكى على أبى وكان يتوسط دائرتهم الرمادية.. وأسمع صوت جارتى وهى تصرخ من وقع صفعاته فوق وجهها وجسدها النحيل الذابل وتستغيث وأبكى من أجلها وأجلى وأنا لا زلت أبحث عنهم.. لكننى لم أسمع صوت لبكائى وقد غلف قلبى أسى هادئ لا يحب البوح أبدا وأحاول أن أنادى على جارتى وقد لفتنا متاهة داخل الشبورة وقد عجزتُ عن إخراج صوتى من فمى المفتوح دون جدوى: يا با
: آه.. آه
: يا ما
وتصرخ الجارة بجانبى وزوجها يبرحها ضربًا، وتداهمنى صحوة فأفتح عينيى وأنصت السمع.
: قتلها..

ربما يقتلها اليوم أو الغد أو بعد منتصف الليل وهى غافية بجواره تحتضن خصره بكلتا زراعيها متمنية الخلاص.
تحسست أطرافى المخدرة في تلك اللحظات لأتأكد بأنها لا زالت معى وسمعت الصغيرة ابنتهما وهى تبكى وحدها ولم يوجد حولها أي صوت سوى صوتها.. أفزعنى صراخها ورنحتنى المخاوف داخل فراشى وأحسست بهواء ثلجى قد داهم غرفتى فأمسكت بأصابعى الباردة لحمى المتشنج أتحسسه بارتعاشات واهنة.

: نعم قتلها.. ربما.. ثم فر هاربًا
بدأ بكاء الصغيرة يتهدج.. وكأنها تقف أمام جسد أمها المسجى المعذب
: تبكى من الخوف.. الخوف
: وأنا.. أنا خائفة
مرت على خاطرى ذكرى مضت منذ سنوات بعيدة وكان زوجى يبرحنى ضربًا.. لأننى أفضل منه وكان يحشرنى بركنى في الرواق الطويل لبيتنا ممسكًا رأسى بكلتا يديه المتشنجتين.. ضاربًا الحائط برأسى مرات، مرات حتى هويت تحت قدميه.
ظلت صورتى وأنا مغشى على تملأ خاطرى وأنا لا زلت بفراشى ولكن زوجى يسير بآخر الرواق لبيتنا منتشيًا بعد أن أبرحنى ضربًا.
قتلها.. قتلها.. الصغيرة.. أنا خائفة


ونظرت حولى داخل غرفتى وكان باب الصوان موارب والرداء المفضل عندى لحفلة رأس السنة.. مهجور.. بارد هناك في آخر الصوان لم تلمسه يداى منذ سنوات.. لكننى عندما يملكنى الحنين أفتح دولابى وأنا أنظر بحسرة مفرطة إلى خيوطه المقصبة اللامعة السوداء وأكتفى بملامساتها بوجل لم أفهمه.


***
كان الغيام يملأ غرفتى وكأن تلك الشبورة بداخل كابوسى داهمت غرفتى الباردة.. فتشت حولى أبحث عن أطياف الأحبة الراحلين دون جدوى فأحكمت الغطاء فوق وجهى

: الصغيرة خائفة، وأنا.................
تلك الوحشة من هذا الشتاء لا تبرحنى أبدًا حتى الأولاد لم يعودوا يدفئوا قلبى.. رغم الصخب العارم حولى والذي تسرع له دقات قلبى وتتلاشى أنفاسى معه..


قالت لى أمى قبل رحيلها: اخترت وحدتك.. ألا تخافين
كانت الصغيرة أثناء شرودى لا زالت تبكى وتسرب إلى سمعى صوت الأم وهى تئن وتبكى هي الأخرى..
ربما يقتلها بالليل وهى غافية بجواره

وغفيت من جديد وأنا أحكم غطائى حولى وأطياف الراحلين ملأت حلمى وهم يهمسون إلى بكلمات عجزت عن سماعها غير كلمات لأمى جاهدت حتى أسمعها وبصوتها الرزين الحزين: إنتى فين.. فين.. فين...

Advertisements
الجريدة الرسمية