قطار الشرق السريع
بينما تشرفني بقراءة المقال أكون في القطار متوجهًا للإسكندرية، لإيصال دواء مهم لجدتي، نظرًا لخلو المحافظة بأكملها منه ووجوده بشكل نادر في بعض مناطق العاصمة..
عندما يقطع القطار الطريق سيكون لديَّ الوقت الكافي لأتذكر أقاربي الذين استشهدوا منذ سنوات طويلة في الحرب، وأفراد آخرين من عائلتي تدهورت حالتهم الصحية، نتيجة تشخيص طبي خاطئ وآخرهم جدتي.. بحيث تقاسمت الحروب والمستشفيات مسئولية التخلص من أفراد عائلتي، وكأنه هدف قومي!
تبدلت أمورنا حتى أصبحنا نزور المسافر في المطار، ونحن نأمل أن نراه مجددًا، ونودع المريض في المستشفى ونحن نعلم أنه اللقاء الأخير لأنه سيخرج إما مقتولًا بسبب الإهمال الطبي أو مفلسًا بسبب الجشع..
تحولت الأخطاء الطبية من حالات فردية إلى عاهات مستديمة، وأصبح (البحث عن الدواء) يحتاج إلى رحلات ابن بطوطة، وتقمص شخصيات السمسار والتاجر، للتفاوض حول سعر الدواء، وهي أمور تحتاج براعة في تقمص الشخصيات تُحاكي براعة بطل فيلم (البحث عن سيد مرزوق) وذلك بعد أن تحول فيلم (أرجوك اعطني هذا الدواء) إلى مسلسل يومي في الصيدليات، وهو ما جعل عبارة (ناقص في السوق) لا تُطلق عند احتياجنا لدواء غير متوفر، ولكن عند احتياجنا لمسئول واعٍ يتولى إدارة هذا الملف.
لابد أن العودة إلى ركوب القطار ستكون فرصة جيدة لأتذكر مجددًا أيام الدراسة، وسفري بالقطار إلى الجامعة.. وتأملي للكتب الدراسية التي اهتم معظم أساتذتي بشرائي لها أكثر من دراستها، ومن وجودي في محاضراتهم أكثر من استيعابي لمضمونها.
سوف ينهب القطار الأرض نحو وجهته، وهو ما يعطينا الحكمة لنتأمل أن الكثير –غير القطار- نهبوا الأرض وما فيها ولم يصلوا بنا إلى أي وجهة منشودة.. وعندما كتبت أجاثا كريستي روايتها الشهيرة (جريمة في قطار الشرق السريع) فقد حيرت قراءها في معرفة الجاني الحقيقي الذي نفذ جريمة القتل بداخل القطار، حتى تكشفت الأحداث وعرفنا أن جميع ركاب القطار قد تشاركوا في قتل الضحية، وعندما اتضحت معالم الجريمة، عرفنا أن ركاب القطار قد تحالفوا وقتلوه انتقامًا منه بسبب جريمة سابقة ارتكبها.
وفي مقابل جريمة قطار الشرق السريع، فإن هناك جرائم تتم بشكل مستمر نتيجة تحالفات بين صُناع المرض والفقر والجهل الذين يتشاركون في ارتكاب الجرائم، فيقتلون أحلام وطموح الضحية، دون أن يكون قد اقترف أي جريمة سابقة سوى إنه ركب القطار معهم.
