رئيس التحرير
عصام كامل

معاذ حجازي يكتب: على حافة الطريق.. كان يبكي!

معاذ حجازي
معاذ حجازي

نزع الليل رداء الظلمة، وأشرقت شمسُ الصباح، وبدأ اليوم الجديد يخطو، الناس من رقود الليل تنهض، عصافير الشروق تصدحُ بالغناء اللطيف، قطرات الندى لم تذهبْ بعد، صوت الإذاعة الخافت لا زال على قيد الحياة، زفير السكُون يغازلُ الأسماع، ضباب الصبح الهائم لا زال صامدًا أمام وَضَح النهار، مصباحُ يوم جديد يُضئ، وهو لا زال يقبع هناك، على حافةِ الطريق يجتري البكاء، عيناهُ حمراواتان، عصرَ منهما الدمعُ ما فيهما من نضَارة، سرق منهما الحزن ما فيهما من سكينة، اختلست منهما الوطْأة ما فيهما من بهجة، أماتت الوحدة فيهما ما يشملهما من نشاط، لم يكن فيه إلا جسدًا، أو بقايا جسد، أما الروح، فـ البقاءُ لله، لكل أجلٍ كتاب..!


الناسُ يهرولون إلى العمل، صخبُ اليوم الجديد، عاد ليضرب من جديد، نسائم الشروق نامت لتستيقظ بعد ساعات، ضباب الصبح استسلمَ أمام ضغط النهار، وضباب نفسه استقر بقلبه وأحبّه، ذلك الحب المكروه، فما لا تُريده يَقبَع، وما تريده يُنزَعْ.. لم يعبأُ أحد به، نفوس السائرين راقدةٌ على فراش العلة، ضمائرهم دومًا تحتضر، تقاليد الإنسانية وعادات الإحساس مختفية منذ ماضٍ بعيد، لا زال البحثُ عنها جاريًا، لكنها اختفت من وجدان الباحثين عنها أيضًا، لذا، فإنه بحث فارغ، دائرةٌ منغلقة لا مخارج بها، إناءُ إنسانية إذا نظرت على جانبٍ منه، لنْ ترى منه إلا الجانب المعاكس، لأن كل شئ هنا يعكسُ اللاشئ..!

لكن الليل مهمَا طال، فلا بد من نهارٍ يأتي، ولو كان مُضطربًا، والنفقُ مهما امتد، فلا بد له من مخرج، ولو كان ضيقًا، والغائب مهما أَطَال، فلا بد له من عودة، ولو كان عجوزًا.. وقَفَ مِن دون أفواج السائرين رجُل، دُسّتْ فيه بعض ما تبقى من الإنسانية، فتاتٌ من العطف لم يزَلْ بداخله، لقيماتٌ بسيطةٌ ما زالت في جُعبَة روحه، فإذا ما وجد روحًا جائعة، أهداها تلك اللُقيْمَات، لتبقَى على قيد الحياة وتَقتاتْ..!

جَثَا الرجل على ركبتيه، سائلا ذاك المسكين: "لماذا تبكي؟، أصَعدتْ روح أحد تُريده؟، أَأَفْلسْتَ وصدَحَ جيبُك بالصراخ والعويل؟، أم أنّك فعلت فعلة تَجْلبُ الحسرة، وجئت هنا لتُقيم حفلَ الدمع الذي لا يَنفض؟، أجبني ما بِكَ لِكيْلا تذهب البذرة الحسنة الأخيرة في ضميري، وأنهضُ راكضًا وراء أفواج السائرين بلا بذور حسنة، أجبني وثبّتْ تلك البذرة بتربة ما تَرْوِي..!

فرفع المسكينُ رأسَه إليه ببطءٍ سَاورَهُ التردد، وقال: " أنا بذرةٌ غُرِسَتْ في أرضِ الحياة ولم تَنْبُتْ ولم تَمُتْ، أنا مولودٌ خرج إلى نور الدنيا ولم أُبْصِرْ ولم أُبْصَرْ، أنا عقلٌ مُبدَعٌ في خلقته ولم يَجِدْ ولم يُجَدْ، أنا قطارٌ سار من محطته الأولى ولم يصل، أنا سحابةٌ طائفة في ساحة الفضاء ولم تهبط، أنا مصباحٌ صُنع بإتقان في هيكله ولم يعمل، أنا نائمٌ راقدٌ على فراش البكاءِ ولم يَقُمْ، أنا ورقٌ محفوظٌ في الأدراج ولم أَخْرُجْ، أنا عباراتُ الحب التي قِيلَتْ ولم تُشْبِعْ، أنا فواحةُ العطر التي عكّرَها الزمان، أنا طائرةٌ أقلعت بنجاح ولم تهبط أبدًا.. أنا حياة لن تعرفها بسؤال، أنا عالمٌ تدور بداخله معارك يُرْثَى لها الحَال..!

أقولُ لك: "دَعنِي وشَأْني ياسيّدي.. فوالله لن تُصْلِحَ ما تَلَفْ، ولن تُعوّضَ ما نَزَف، ولن تُكفكف الدمع، ولن تُضئ الشمْع، ولن تُجبر ما كُسِرْ، ولن تُعيدَ ما هُدِرْ، ولن تُداوي الجرْح، ولن تأتي بفرْح، ولن تُضئ القلبْ، ولن تدل على الدرْب، ولن تُهدي السعادة، ولن تَبلَغ الإفادة، ولن تُحيي ما مات، ولن تُميت الآهات، ولن تَسكن الدّار، ولن تَسْعد بالجِوار، ولن تنال الفضيلة، ولن تَرد الرذيلة، ولن تُقاوم الرَدَى، ولن تَقْطُر الندَى، ولن تَهِب الزّفير، ولن تُقارِع النّفير، ولن تُغادر هانئا، ستظل معي هائمًا، ولن ترَى النور، ولن تَدفع الفجُور، ولن تُعطّر المكان، ولن تُغيّر الزمَان..!

تلاحقَتْ دموعُ الرجل تأثرًا بكلام المسكين الغامض، الذي بدا عليه أنهُ بحر يحوي بداخله ما لا طاقة للروح بسماعه، ثم قال له وعيناه يداهمهما الدمع: "ياسيدي، إنّ عقلي لم يتذوق معاناتك وإِحداثياتها، لكنّ قلبي تذوق واشْتهَى حتى سدّ ما فيه من جُوع، تفاصيلُ روايتك لا تَهُم، فوجهُكَ وإن كان ذابلًا، إلا أنه يُكْتبُ فيه مُجلدات، تُنيرُ من الظلمة جَمْعُها، وإنني لست بالقادِرِ المُبْتَغَى، الذي ينهضُ بكَ من هُنا، من ساحة الدمع، ليقذفُك هناك، في موطِن الفرح، ولكني أُعاتبكَ على استسلامك الذي أخذ بدنكَ وأتى به إلى هنا، وسرق روحك وأهداها لِلخواء، أُعاتبك ياسيّدي من قاعِ قلبي: ألمْ ترَ أنك تسيرُ مع الدنيا مثلما تسيرُ هي معك.. ألم ترَ أنّ نَواميسها تقودكَ إلى ما تُريد وما لا تُريد.. ألم تر أن نوائبها تَصفعُك تارة وتمنحك أخرى.. ألم ترَ أن نيران بُركانها تُطفئه زهور البساتين الفسيحة ذات الروائح الطيبة.. ألم تر أن دُنياك لا تكاد تُبكيك حتى تُضحِكُكْ.. وتُميتك حتى تُحييك.. وتزرع فيك بذور اليّأس حتى تستبدلُها بأُخرى من الأملِ اللامُنتهِي.. ألم ترَ أنك تبدو وحيدًا في يوم، لِتشعر في آخر بأن البرية كلها تُواسيكَ أو تتسامر معك، أو حتى تُحيطك بظلالها فتشعر بأنك القائد والمحبوب.. ألم ترَ أن الله يحرمُنا حتى نشعر بلذة العطاء؟، ولولا الحرمان ما وُجِدَتْ لذة في الحياة.. وتِلكَ أيامه يدوالها بين الناس..!

نظرَ المسكينُ إليه بابتسامةٍ مُفعمَةٌ باليأس، وقال: " تُظنني جاهلًا لا أدري، أو أحمقٌ لم يمر على عقلي ما قُلتْ، عثراتُ النفس أعْتى ممّا تتخيلُ أنت، ظلمةٌ قاتمة، مُخيفة، وطاغيةٌ على الحيَاة، صفعةُ الأيام باتت تفوزُ في كل صراع، أحداث الزمان تحتفلُ دومًا بالتفوّق عليّ، احْتدَامُ العِرَاكُ لا يُوصَفُ بكلام ياعزيزي، لذا، فَسأُوجز الحديث معك، وكفَى ما قيل، وسأبقَى عليل، أنا هُنا، في مَوضِعِي، ومَضْجَعِي، اذهب إلى ما كُنت تَنوِي، وامضِ في صَخَبِ الحياة مضطربًا، وإن مررت هنا ثانية، فانظر إليّ وابتسم، ثم اذهب في صَمت، فـ رُبَّ بسمة أتَلقفهَا كل يوم، تَهِبُنِي الوجهَ الآخر للحياة، تلك الحياة التي لمْ أعرفُهَا بَعْد..!

فنهضَ الرجلُ وقد زُرِعَتْ في قلبه حَبّات نية الرّحيل، فما مِنَ الكلام بُد، ونظر إليه بابتسامةٍ لوّنها العطف، ثم أدارَ ظهره له، ووَاصَلَ المَسِير، وتَرَكهُ هُناك، وحيدًا، على حَافةِ الطريق يبكِي..!
الجريدة الرسمية