رئيس التحرير
عصام كامل

تمثال الثلج ومملكة العنكبوت!


في مقالاتي السابقة تناولت حجم المعاناة الإنسانية التي تعرض لها الفلاح المصري على مر التاريخ... وفي الوقت الذي كان فيه الملك سيدًا على الأرض والفلاح.. كان الفلاح عبدًا لكل مصادر الحياة بما فيها الملك.. وحقيقة الأمر لم تكن عمالة الفلاحة وحدها المجني عليها، فقد شرب العاملون في شتى المهن من نفس كأس الاستبداد والعبودية الذي شربه منها الفلاحون، أولئك العمال الذين بنوا على أكتافهم العنيدة والحَمولة أهرامًا من الإنجازات، بل ربما أسسوا لـ"حضارة" إنسانية فريدة، تناطح أعتى حضارات الأرض، فلا يزال شلال صوتهم الهادر ينزف تحت أحجار الأهرامات والمعابد، وفي بطون الترع والمصارف، وعلى أظهر الطرق والجسور.. معاناة لم يكشفها التاريخ الذي عَظَّم الحُكَام الذين رقدوا في نعيم الأهرامات، وتناسى عن عمدٍ مأساة العمال والفلاحين، تاريخ سجلته أنظمة مستبدة، جارت على حقوق العمال أحياءً وأمواتًا؛ فوضعوا في غرفة الملك تابوت من الذهب، بينما وضعوا للعامل تمثالًا خشبيًا!


ليس غريبًا عليَّا أن أتلقى خبر حصول مصر على المركز الـ "16" في قائمة أسوأ الدول في انتهاكات الحقوق العمالية، حيث أفاد التقرير الجديد الذي أصدره الاتحاد الدولي لنقابات العمال، أن أكثر من 90٪ من العمال، يعجزون عن الحصول على حقوقهم، مما دَعّم ممارسات السُّخرة في كثير من دول العالم، خاصة تلك التي تدعمها قوانين " الكفالة " القديمة!

فقد تعرض العامل المصري على مدار التاريخ لأسوأ أنواع السُّخرة.. وما زال يعاني من استبداد المؤسسات التي عادة ما تُحمل العامل البسيط نتائج سياساتها الفاشلة في رفع معدلات النمو الاقتصادي المطلوب.. فمثلًا عندما عجزت الدولة عن زيادة حجم كفاءة منتجاتها.. لجأت إلى تخفيض رواتب العاملين والمطالبة بتسريح الكثير منهم.. ولم تُرجِع توقف أكثر من 41 % من مصانعها لفشلها في إدارة تلك الشركات والمصانع، وإنما ألقت بالتبعات كلها على عاتق العمال تارة بدعوى ترشيد مدخلات الإنتاج، وتارة لسد عجز الموازنة من خلال فرض مزيد من الضرائب وتصدير موجات من "الغلاء" لم تستطع رواتب العمال البسيطة الوقوف أمامها.. مما دفع العامل إلى الاختيار بين طريقين كلاهما مُر: إما أن يصبر في عمله براتبه الذي لا يشبع سوى 30 % من متطلباته المعيشية، وإما أن يغادر العمل لينضم إلى كتائب " الخارجين " عن القانون!

إن الاستبداد في التعامل مع العمال المصريين داخل وطنهم، لم يكن قاصرًا على الدولة وحدها، فقد تشربت الشركات الخاصة تلك الممارسات القميئة، وبات العامل واستقراره في العمل مرهونًا بمزاج صاحب العمل، الذي يُجبِر العامل على توقيع استمارة "6" قبل استلام العمل، ليخول لنفسه سلطة الفصل من العمل في الوقت الذي يروق له، دون مساءلة قانونية، حتى "التأمينات" التي يلتزم بها صاحب العمل – طبعًا إذا كان هناك تأمين من أصله– فعادة ما يستقطعها من "راتب" العامل البسيط!

لم تنتهِ معاناة العامل المصري عند طبيعة الأجور التي يحصل عليها العامل، إذا ما تم مقارنتها بأسعار السلع التي تتزايد وربما تتضاعف يومًا بعد الآخر، بل تتضح بصورة جلية في الزيادة السنوية الثابتة التي يقرها رئيس الجمهورية في أول يونيو من كل عام.. أولًا لأن نسبة الزيادة تكون سنوية ثابتة وتكون على أساس الرواتب، بينما تكون أسعار السلع يومية ومتغيرة.. فأقصى زيادة مثلًا حصل عليها العاملون في دولاب الحكومة 10 % سنويًا على الراتب الأساسي، بينما تصل الزيادة السنوية في أسعار بعض السلع إلى 40 %! علمًا بأن العاملين في القطاع الخاص وهم الأكثر عددًا- لا يتمتعون بهذه الزيادة!

وثانيًا لأن نسبتها ثابتة والأسعار متغيرة وربما "مجنونة".. وثالثها لأن الزيادة في الأصل "حق" للعامل على الدولة، بينما تعتبرها حكوماتنا المبجلة "منحة" من الرئيس وأنه يملك "قانونيًا" حق التراجع عنها!

ومن ثم لم يعد "الراتب" الحكومى "مُغريًَا" لاستعباد العاملين، ولكن رغبتهم في الإحساس بالآمان الوظيفي في ظل العواصف الاقتصادية الخطيرة التي تتعرض لها مصر ولا سيما في الآونة الأخيرة، هى التي تدفعهم إلى التمسك بالوظيفة الحكومية، حتى وإن كان الاستعباد فيها مقابل البقاء في العمل، لقد بات الأجر الحكومي في ظل الارتفاع الجنوني لـ"الأسعار" كـ "تمثال الثلج" الذي يقبض العامل عليه، فإن لم يَذب بفعل حرارة الجو.. ذَابَ من قبضة يده عليه، فبمجرد أن يذهب العامل براتبه إلى السوق؛ لن يجد في يده سوى "الوهم"!

حتى النقابات العمالية التي وجِدت خصيصًا للدفاع عن حقوق العمالة.. تم تَسْيسُّها لتصبح سيفًا مسلطًا على رقاب العاملين.. فتحولت النقابات إلى جمعيات أهلية، لا يتولى منصب النقيب فيها إلا من كان مواليًا للنظام.. وغالبًا ما يتوقف حجم "الإعانة " الحكومية المخصصة للنقابة على علاقة مجلس النقابة بالنظام الحاكم!

ليس ذلك فحسب فهناك نقابات عمالية تم تشكيل مجلسها دون إجراء أي انتخابات في ظل الغياب الكامل لدور الدولة في حماية الديمقراطية داخل هذه النقابات.. مما تسبب في نشوء صراع طاحن وانقسامات فجة داخل كثير من النقابات المهنية والعمالية.. أضف إلى ذلك ما يحدث في نقابة الصحفيين التي تشترط فيمن ينضم إليها تعاقده لمدة لا تقل عن "عام" مع إحدى الصحف أو المجلات المرخصة بالمجلس الأعلى للثقافة.. الأمر الذي جعل كثير من شباب الصحفيين يقبل العمل لمدة عام أو أكثر "بدون أجر" حتى تمنحه الجريدة "عَقد" العمل الذي يعد بمثابة له تأشيرة الدخول إلى النقابة، حتى وإن اضطر الصحفي إلى دفع مبالغ مالية من أجل وضعه في كشوف المرشحين للعضوية، بالإضافة إلى عمله - طبعًا - بدون أجر!

إذًا لم تعد النقابات أيضًا درعًا لحماية أعضائها من غُبن أو استبداد بعض أصحاب العمل.. بل باتت النقابات أيضًا كالأجور بمثابة تمثال الثلج.. فما إن واجه العامل ظلمًا في عمله ولجأ للنقابة للدفاع عنه، أدرك أنه كان بمثابة خيط في "مملكة العنكبوت ".. فلم تعد النقابات سوى أندية اجتماعية لمضيعة الوقت، وتناول وجبات غذائية مدعمة، أو مكانًا للنبش في سير الأعضاء من الأحياء والأموات على حدٍ سواء!
الجريدة الرسمية