رئيس التحرير
عصام كامل

الدولار واللعب بالنار


في عام 1834 وفي عصر محمد علي باشا صدر أول مرسوم بصك عملة رسمية لمصر في العصر الحديث، بعد أن كان الناس يستخدمون عملات متنوعة من الذهب والفضة وغيرها، وكان القرش أكثرها استخدامًا حيث كان العملة المتداولة في الدولة العثمانية.


كانت العملات المتداولة في مصر قبل 1834 تصنع في مصر أو في خارجها، ولم تكن الدولة تتحكم في صنعها إلا أن مرسوم 1834 جعل الدولة المصرية دون غيرها هى المسئول الوحيد عن صك العملة المصرية الرسمية، وبدأ في نفس العام صك ريـالات من الذهب والفضة كمرحلة انتقالية، حتى تم صك أول جنيه مصري بعد عامين (1836).

وكان المرسوم يشمل سعر الجنيه مقومًا بالذهب والفضة، لكن تقلبات سعر الفضة أدت إلى اعتماد الذهب كمعدن وحيد للتقييم في عام 1865، أما الجنيه الورقي الذي نعرفه فلم تبدأ طباعته إلا في عام 1899 من البنك الأهلي المصري، الذي ظل مصدر النقد في مصر، حتى انتقل ذلك إلى البنك المركزي في 1961عام. 

وفي عام 1885 في عصر الخديو توفيق تم تثبيت معيار الجنيه المصري بقوة القانون عند نحو 7.44 جرامات من الذهب (أكثر من 5000 آلاف ضعف القيمة الحالية) ثم تم ربطه بالجنيه الإسترليني في بداية الحرب العالمية الأولى ليساوى أكثر قليلًا من جنيه استرليني واحد وظل الأمر كذلك حتى أوائل الستينيات ففي عام 1962 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وعلى خلفية سياسية، تم فك ارتباط الجنيه المصري بالإسترليني وربطه بالدولار الأمريكي ليساوي 2.3 دولار أمريكي، ثم تم رفع قيمته بعد انخفاض سعر الدولار في حرب أكتوبر نتيجة لاستخدام سلاح النفط العربي فصار الجنيه يساوي 2.55 دولار، لكنه ما لبث أن انخفض إلى 1.7 دولار في 1978 ثم كان أكبر تخفيض في قيمة الجنيه في التاريخ في عام 1989 في عهد الرئيس مبارك، ليصبح الدولار يعادل 3.33 جنيه ثم أعلن في 2003، أنه تم تعويم كامل للجنيه وصار الدولار يعادل أكثر من 5 جنيهات ونصف، ثم زاد سعره تدريجيًا إلى 6 جنيهات ونصف، حتى صدر قرار في 2016 بتخفيضه وصار الدولار يعادل 8.88 جنيهات، قبل الإعلان مرة أخرى عن تعويمه في نوفمبر 2.16 ليقترب الدولار من عشرين جنيهًا، في ثاني أكبر انخفاض في قيمة الجنيه في تاريخه.

لا أدعى أني علمت أسباب الارتفاع السريع جدًا في سعر الدولار من 8.88 جنيه إلى قرب العشرين جنيهًا، وظللت أسأل نفسي ومثلي كثيرون لماذا لم يتدخل البنك المركزي لمنع تدهوره عند السعر العادل المعلن حول ١٣ جنيهًا حتى ولو سياسيًا بإعلان رسمي لدراسات تقييم القيمة الشرائية للجنيه أو إعلان خطط اقتصادية، وسعر مستهدف إلا إن ذلك لم يحدث.

وإن كان ذلك يمكن تفسيره في إطار استخدام البنك كل الطرق للاستحواذ على الدولار ومنها اقتراض ما يقرب من ١٠ مليارات دولار على شكل قروض أو ودائع من دول صديقه أو سندات ولو بفائدة مرتفعة جدًا، ومنذ نحو أسبوعين بدأ الجنيه المصري في الارتفاع السريع أمام كل العملات الأجنبية، لكن لا أستطيع أيضًا أن أفسر الانخفاض السريع جدًا في سعر صرف كل العملات أمام الجنيه إلا إنها مضاربات فلا توجد عمله ترتفع ٢٠٪‏ في أسبوعين لأسباب موضوعية.

كل التبريرات التي يحاول البعض تقديمها غير مقنعة أو متناسبة مع معدل التغيير ومعظم التعليقات في مصر سلبًا وإيجابًا في الآونة الأخيرة تدخل في إطار الدعم أو المعارضة السياسية في غياب تام لتحليل موضوعي من جهة محايدة لوضع الاقتصاد القومي والخطط العاجلة، لتحفيزه وخفض نسبة التضخم ومواجهة البطالة والزيادة السكانية وقلة الإنتاجية وتردي الخدمات الأساسية، وهى أهم التحديات التي تواجه مصر في هذه المرحلة.

وعلى الناحية الأخرى لا يهتم البعض بالوجه الآخر للعملة، وهو السيولة الكبيرة التي تضخ في السوق الآن حيث تم تسييل ما يقارب من ٢٠ مليار جنيه مصري بعد تكالب المواطنين على التخلص من العملات الأجنبية، وأخشى أن تحويل هذه الأموال إلى الاستثمارات الآمنة التقليدية كالعقارات، وما يمكن أن ينتج عنه من تغير في أسعارها وكذلك تأثير هذه التقلبات الهائلة في سعر الصرف على المستثمرين.

وما استغربه هو الاهتمام الشديد بزيادة الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية ولو شكليًا حتى ولو بمضاعفة الدين الخارجي، وأتذكر أني عندما بدأت دراسة مبادئ الاقتصاد كجزء من إدارة الأعمال في كندا درسنا تجربة كندا في التخلص من الاحتياطي الذهبي والنقدي في ظل تغير الفكر الاقتصادي من الاحتياطيات النقدية إلى الاستثمارية فقد باعت كندا مئات الأطنان من الذهب والعملات الأجنبية، لتضخ كل ذلك في استثمارات فعلية صناعية وزراعية لخلق اقتصاد حقيقي وخلق فرص عمل دائمة لملايين المهاجرين، وإن السياسة الاقتصادية الحديثة أصبحت أن قوة الدولة الاقتصادية في قيمة وتنوع استثماراتها وزيادة ناتجها القومي والانحراف المعياري لمستوى دخل الفرد من قيمته الوسيطة لا المتوسطة وقلة ديونها وزيادة أرصدتها لدى الغير.

أتمنى أن يكون هناك تفسير علمي لما يحدث من مؤسسات محايدة لا تتأثر بالانتماء السياسي، وأن تكون لنا خطة اقتصادية واضحة ومدروسة تضع خططًا لمواجهة التحديات الرئيسية التي ذكرناها بطرق موضوعية، وألا نستمر في محاولات تفسير ما يحدث من حولنا دون خطط واضحة للتحكم في المسار الاقتصادي، تجعلنا قادرين على تقييم الأداء وتوقع النتائج ومحاسبة المسئولين.
الجريدة الرسمية